فكيف طوحت بها الأقدار فألقت بها في هذا العالم النائي الغريب الذي لم تكن تدري به أو تعلم له وجوداً؟ وكيف كتبت عليها أن تفقد زوجها الحبيب، وأن تعيش وسط الذعر والموت؟
واشتد بها الضيق، وزاد بها الحنين إلى ماضيها الهانئ، وصوّر لها الوهم القرية فرأتها أمامها، وشاهدت الغابة التي يقطعها فتيان القرية وفتياتها كل صباح ومساء ليبلغوا العين فيزدحموا عليها ليرتووا من مائها العذب النمير، ويُذهبوا ظمأ أجسامهم إلى الشراب، وليرتووا من «العيون» الأخرى فيطفئوا ظمأ نفوسهم إلى الحب ... فذكرت كيف عرفت فتاها الحبيب، وقد رأته أول مرة على باب داره تلقاء الغابة، فأحست كأن عينيه قد اخترقتا شغاف قلبها. ورأته بعد ذلك في الغابة ولكنها لم تجرؤ على أن تكاشفه بحبها ... وهل تجرؤ على مثل ذلك فتاة؟ حتى كان ذلك اليوم السعيد الذي يمر في موكب حياتها بهياً مشرقاً (على حين تمر أيامها الأخرى شاحبات غائمات)، فجلست معه تحت تلك الشجرة المنعزلة أحلى مجلس في حياتها، المجلس الذي أعلن فيه مولد الحب بقبلة مسكرة لا تزال تحس طعمها في فيها وأثرها على شفتيها.
لقد كانت سعيدة في هذه القرية، تعيش في جنة الغرام، لا تعرف إلا قلبها وربها، فهي تصبح فتمشي إلى كنيسة ربها (لأنها لم تعرف لله بيتاً خيراً منها)، فتتوجه إلى الله بالصلاة التي حفظتها ... وتمشي فتطوف في الغابة، يدها في يد الزوج الحبيب، حتى تبلغ كنيسة حبها تحت الشجرة المقدسة، فتؤدي فيها صلاة الحب على دين الغرام، قبلة فيها (كما قال ابن أبي ربيعة) خمر وعسل!