واحتجّ الجمهور بأحاديث كثيرة في "الصحيحين"، وفي غيرهما: فمنها: حديث "اكتبوا لأبي شاه ... " الحديث. متّفقٌ عليه. ومنها: حديث: "ايتوني بكتاب أكتب لكم كتابًا لا تضلّوا بعده ... " الحديث. متّفقٌ عليه أيضًا. ومنها: حديث أبي جحيفة -رضي الله عنه- قال: قلت لعليّ -رضي الله عنه-: هل عندكم كتاب، قال: لا، إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة ... " الحديث. متّفق عليه. وغير ذلك من الأحاديث الكثيرة. وجمعوا بينها وبين النهي المذكور في حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- بأنه كان حين خيف اختلاطه بالقرآن، فهو منسوخ. أو بأن الإذن لمن خيف عليه النسيان، والنهي لمن أُمن منه. أو بأن النهي لمن نسخ الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة. ومنهم من أعلّ حديث أبي سعيد -رضي الله عنه-، وقال: الصواب وقفه عليه. قاله البخاريّ وغيره.
وإلى هذا الخلاف أشار الحافظ السيوطيّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في "ألفية الأثر" حيث قال:
كِتَابَةُ الْحَدِيثِ فِيهِ اخْتُلِفَا ... ثُمَّ الْجَوَازُ بَعْدُ إِجْمَاعًا وَفَى
مُسْتَنَدُ الْمَنْعِ حَدِيثُ مُسْلِمِ ... "لا تَكْتُبُوا عَنِّيَ" فَالْخُلْفُ نُمِي
فَبَعْضُهُمْ أَعَلَّهُ بِالْوَقْفِ ... وَآخَرُونَ عَلَّلُوا بِالْخَوْفِ
مِنِ اخْتِلَاطٍ بِالْقُرَانِ فَانْتَسَخْ ... لأَمْنِهِ وَقِيلَ ذَا لِمَنْ نَسَخْ
الْكُلَّ فِي صَحِيفَةٍ وَقِيلَ بَلْ ... لآمِنٍ نِسْيَانَهُ لَا ذِي خَلَلْ
وقلت في "ألفية العلل":
كِتَابَةُ الْحَدِيثِ فِيهِ اخْتلِفَا ... كَرِهَهَا قَوْمٌ سَرَاةٌ حُنَفَا
فَمِنْهُمُ زَيْدٌ أَبُو هُرَيْرَةِ ... كَذَا ابْنُ مَسْعُودٍ وَحَبْرُ الأُمَّةِ
كَذَا أَبُو مُوسَى وَنَجْلُ عُمَرَا ... كَذَلِكَ الْخُدْرِيْ وَغَيْرُهُمْ جَرَى
وَجَوَّزَتْ طَائِفَةٌ كَعُمَرِ ... وَأَنَسٍ مَعَ ابْنِ عَمْرٍ وجَابِرِ
كَذَا عَلِيٌّ وَابْنُهُ الْبَرُّ الْحَسَنْ ... وَابْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنْ
وَأَكْثَرُ الصِّحَاب أَيْضًا ذَهَبُوا ... وَأَكْثَرُ الأَتْبَاعِ نِعْمَ الْمَذْهَبُ
وَفِرْقَةٌ ثَالِثَةٌ قَدْ جَوَّزَتْ ... لِلْحِفْظِ ثُمَّ الْمَحْوَ بَعْدُ أَلْزَمَتْ
أَمَّا دَلِيلُ مَنْ أَبَاحَ فَـ "اكْتُبُوا" ... أَمَّا لِعَكَسِهِ فَجَا "لا تَكْتُبُوا"
وَاخْتَلَفُوا فِي الْجَمْعِ قِيلَ الإِذْنُ ... لِخَائِفِ النِّسْيَانِ نَعْمَ الأَمْنُ
وَقِيلَ نَهْيُهُ لِئَلَّا يَخْتَلِطْ ... مَعَ الْقُرَانِ ثُمَّ زَالَ إِذْ ضُبِطْ
وَقِيلَ نَهْيُهُ لِمَنْ كَتَبَ فِي ... صَحِيفَةٍ وَاحِدَةٍ فَلْتَعْرِفِ
وَبَعْضُهُمْ أَعَلَّهُ بِالْوَقْفِ ... وَمُسْلِمٌ رَوَاهُ رَفْعًا يَكْفِي
ثُمَّ أَتَى الإِجْمَاعُ بَعْدُ وَانْتَفَى ... الْخُلْفُ فَاكْتُبَنْ تَنَلْ خَيْرًا وَفَا