الثَّانِي: إنَّ الْأَمَانَةَ عِلْمٌ لِمَا هُوَ غَيْرُ مَضْمُونٍ فتشمل جَمِيعَ الصُّوَرِ الَّتِي لَا ضَمَانَ فِيهَا كَالْعَارِيَّةِ وَالْمُسْتَأْجر وَالْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ فِي يَدِ الْمُوصَى لَهُ بِهَا، والوديعة مِمَّا وُضِعَ لِلْأَمَانَةِ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فَكَانَا مُتَغَايِرَيْنِ، وَاخْتَارَهُ صَاحب الْهِدَايَة وَالنِّهَايَة، وَنقل الاول عَن الامام بدر الدّين الْكرْدِي اهـ.

وَقد أوسع الْكَلَام فِي هَذَا الْمقَام العلامتان صدر الشَّرِيعَة وقاضي زَاده.

قَوْله: (وركنها الايجاب صَرِيحًا) أَي قولا أَو فعلا.

قَوْلُهُ: (أَوْ كِنَايَةً) الْمُرَادُ بِهَا مَا قَابَلَ الصَّرِيح مثل كنايات الطَّلَاق لَا البيانية كَمَا نذكرهُ قَرِيبا

قَوْله: (كَقَوْلِه لرجل أَعْطِنِي الخ) لَو قَالَ كَقَوْلِه لرجل أَعطيتك بعد قَوْله أَعْطِنِي كَانَ أوضح، لَان الايجاب هُوَ قَوْله أَعطيتك على أَن قَوْله أَعْطِنِي لَيْسَ بِلَازِم فِي التَّصْوِير ط.

قَوْله: (لَان الاعطاء

يحْتَمل الْهِبَة) أَي وَيحْتَمل الْوَدِيعَة.

وَفِيه أَن احْتِمَال الْوَدِيعَة فِي مثل هَذِه الْعبارَة بعيد جدا لُغَة وَعرفا فلماذا عدلوا عَن الْمُتَبَادر إِلَى غَيره.

قَوْله: (لَكِن الْوَدِيعَة أدنى) هَذَا التَّعْلِيل ذكره فِي الْبَحْر أَيْضا، وَيُشِير إِلَى أَن المُرَاد بِالْكِنَايَةِ الْكِنَايَة البيانية، وَهِي إِطْلَاق الْمَلْزُوم وَإِرَادَة اللَّازِم كَقَوْلِه: فلَان طَوِيل النجاد كثير الرماد على مَا عرف فِي فن الْبَيَان، وَلَيْسَ كَذَلِك لعدم انْتِقَاله من اللَّازِم إِلَى الْمَلْزُوم وَلَا عَكسه، فَعلمنَا أَن المُرَاد بِالْكِنَايَةِ مَا احتملها وَغَيرهَا كَمَا ذكرنَا، فَلَو قَالَ صَرِيحًا أَو احْتِمَالا لَكَانَ أظهر.

تَأمل.

قَوْله: (وَلم يقل شَيْئا) فَلَو ذهب وَتَركه ضمن إِذا ضَاعَ فَهَذَا من الايجاب دلَالَة كَمَا أَنه من الْقبُول كَذَلِك، أما لَو قَالَ لَا أَقْبَلُ الْوَدِيعَةَ لَا يَضْمَنُ إذْ الْقَبُولُ عُرْفًا لَا يَثْبُتُ عِنْدَ الرَّدِّ صَرِيحًا.

قَالَ صَاحِبُ جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ: أَقُولُ دَلَّ هَذَا أَنَّ الْبَقَّارَ لَا يَصِيرُ مُودَعًا فِي بَقَرَةِ مَنْ بَعَثَهَا إلَيْهِ فَقَالَ الْبَقَّارُ لِلرَّسُولِ اذْهَبْ بِهَا إلَى رَبِّهَا فَإِنِّي لَا أَقْبَلُهَا فَذَهَبَ بِهَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَضْمَنَ الْبَقَّارُ، وَقَدْ مر خِلَافه.

يَقُول الحقير: قَوْلُهُ يَنْبَغِي لَا يَنْبَغِي، إذْ الرَّسُولُ لَمَّا أَتَى بِهَا إلَيْهِ خَرَجَ عَنْ حُكْمِ الرِّسَالَةِ وَصَارَ أَجْنَبِيًّا، فَلَمَّا قَالَ الْبَقَّارُ رُدَّهَا عَلَى مَالِكِهَا صَارَ كَأَنَّهُ رَدَّهَا إلَى أَجْنَبِيٍّ أَوْ رَدَّهَا مَعَ أَجْنَبِيٍّ فَلِذَا يَضْمَنُ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الثَّوْبِ.

نُورُ الْعَيْنِ، وَتَمَامُهُ فِيهِ.

وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ الذَّخِيرَةِ: وَلَوْ قَالَ لَمْ أَقْبَلْ حَتَّى لم يصر مودعا وَترك الثَّوْب ربه فَذهب فَرَفَعَهُ مَنْ لَمْ يَقْبَلْ وَأَدْخَلَهُ بَيْتَهُ يَنْبَغِي أَن يضمن لانه لما ثَبت الْإِيدَاعُ صَارَ غَاصِبًا بِرَفْعِهِ.

يَقُولُ الْحَقِيرُ: فِيهِ إشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّ الْغَصْبَ إزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ وَلَمْ تُوجَدْ وَرَفْعُهُ الثَّوْبَ لِقَصْدِ النَّفْعِ لَا للضَّرَر بَلْ تَرْكُ الْمَالِكِ ثَوْبَهُ إيدَاعٌ ثَانٍ وَرَفْعُ مَنْ لَمْ يَقْبَلْ قَبُولٌ ضِمْنًا، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يضمن، وَالله تَعَالَى أعلم اهـ.

وَفِي الْبَحْر عَن الْخُلَاصَة: لَو وضع عِنْدَ قَوْمٍ فَذَهَبُوا وَتَرَكُوهُ ضَمِنُوا إذَا ضَاعَ، وَإِنْ قَامُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ ضَمِنَ الْأَخِيرُ لانه تعين للْحِفْظ فَتعين للضَّمَان اهـ.

فَكُلٌّ مِنْ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فِيهِ غَيْرُ صَرِيحٍ كَمَسْأَلَة الخاني الْآتِيَة قَرِيبا بل بطرِيق الدّلَالَة.

أَقُول: لَكِن فِي النَّفس شئ من بحث نور الْعين فِي مَسْأَلَة البقار، وَهُوَ أَن البقار لما لم يقبل

الْبَقَرَة لم يصر مودعا قطعا وَالرَّسُول لما أدّى الرسَالَة انْتَهَت يَده الْمَأْذُون بهَا من الْمَالِك وَصَارَ كل مِنْهُمَا أَجْنَبِيّا فِي حق حفظ الْبَقَرَة وَالْبَقَرَة فِي حكم اللّقطَة حِينَئِذٍ، فَإِذا أَمر أَجْنَبِيّا بِرَفْع اللّقطَة وحفظها لِرَبِّهَا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015