والحاصل أن البوصيري كان من غلاة الصوفية الشاذلية، ولا ينفع الذين دافعوا عنه التماسهم العذر له في بعض الأبيات أو توجيهها وجهة حسنة، فهذا إنما يقال لمن كان سليم المعتقد سليم المنهج والطريقة ثم تزل قدمُه في مسألة أو مسألتين، فهذا يُلتمس له العذر فيها، أمَّا من كانت هذه طريقته، وهذا معتقده، وهذا ديدنه، فمهما التمسنا له العذر في بيت أو بيتين فماذا عن الباقي؟! وماذا عن شرَّاح هذه القصائد الذين يؤكدون هذه المعاني ويتتابعون عليها في شرح قصائده؟!

وهذا كله لا يمنعنا أن نشيد بقوةِ شِعْره وجزالته، سواء كان من شعر مديح المصطفى صلى الله عليه وسلم أو ما فيه من حِكَمٍ ودُرَرٍ، فمن مليح المديح قوله في البردة:

أكرِمْ بخَلْقِ نبيٍّ زانَهُ خُلُقٌ ... بالحُسنِ مشتَمِلٌ بالبِشْرِ مُتَّسِمِ

كالزَّهرِ في تَرَفٍ والبدرِ في شَرَفٍ ... والبحرِ في كَرَمٍ والدهرِ في هِمَمِ

وقوله واصفاً الصحابة رضي الله عنهم:

هُمُ الجبالُ فَسَلْ عنهُم مُصَادِمَهُم ... ماذا لَقِي منهمُ في كُلِّ مُصطَدَمِ

وَسَلْ حُنَيْنَاً وَسَلْ بَدْرَاً وَسَلْ أُحُدَا ... فُصولُ حَتْفٍ لَهم أدهى مِنَ الوَخَمِ

كأنَّهُم في ظُهورِ الخَيْلِ نَبْتُ رُبَىً ... مِن شِدَّةِ الحَزْمِ لا مِن شَدَّةِ الحُزُمِ

وفيها من الحكم الكثير، كمثل قوله:

والنفسُ كالطفلِ إن تهمله شبَّ على ... حبِّ الرضاع وإن تفطمه ينفطمِ

فاصرف هواها وحاذر أن توليه ... إن الهوى ما تولى يُصْمِ أو يَصِمِ

وراعِها وهي في الأعمالِ سائمةٌ ... وإن هي استحلتِ المرعى فلا تَسِمِ

كم حسَّنَتْ لذةً للمرءِ قاتلةً ... من حيثُ لم يَدْرِ أنَّ السُّمَّ في الدَّسَمِ

قد تُنكر العينُ ضوءَ الشَّمس من رمَدٍ ... ويُنكر الفمُ طعمَ الماءِ من سقمِ

وخالفِ النفسَ والشيطانَ واعصِهِما ... وإن هما محَّضاك النُّصْحَ فاتهمِ

ولا تُطِعْ منهما خَصْماً ولا حَكَماً ... فأنت تعرفُ كيدَ الخصمِ والحَكَمِ

ومن بديع شعره:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015