واعلم أن هذين اللفظين ممَّا يَكْثُر وقوعهما في كثيرٍ من عبارات فقهائنا مع اشتمال المقام على الكراهة، فيقولون: صَحَّت الصلاة وأجزأت، مع أنها تكون مكروهةً عندهم. وهذان اللفظان يُشِيرَان إلى انتفاء الكراهة، فَيَزْعُمُ الخصومُ أنها غير مكروهةٍ عندنا، ثم يُورِدُون علينا ويردُّون علينا. ولو وَضَعَ الفقهاءُ مقامهما لفظًا آخر، لم تَرِدْ علينا تلك الإيرادات، ولم يَسْتَوْحِشْ منه الخصوم. والآن أريدُ أن أُلقيَ عليك حقيقة هذين اللفظين.
فاعلم أن قولَ الفقهاء: «صحَّ» ليس مأخذوًا من قولهم: «صحَّ المريض» ليدُلَّ على الصحة باعتبار الأوصاف، بل بحَسَب الأجزاء فقط. قالوا: «إنها صَحَّت»: أرادوا بها تَمَامِيَة الأجزاء، وإن اشتملت على نقصان في أوصافها. واللفظ يكون موضوعًا لمعنىً في اللغة، ثم يَنْسَلِخُ عنه في العُرْف، والبُلَغَاء يستعملونه بالنظر إلى الاستعمال الأول، فيضْطَرِبُ فيه العوام لذهولهم عن استعماله الأول، وشيوعه في غيره عندهم. ولا يُقَالُ له: تعدُّد المعاني، بل: تعدُّد موارد الاستعمال، كما مرَّ منا في لفظ المسح والنَّضْح.
فالمسحُ في حق الأَرْجُل: بالإِسالة، وفي الرأس: بإِمرار اليد المبتلَّة. وكذلك نَضْحُ البحر يكون بالأمواج، ونَضْحُ النواضح بحملها ماءً كثيرًا، ونَضْحُ الإنسان بالرشِّ. فهل تَرَاه أنه اختلفت معانيه؟ كلا، بل هو لفظٌ واحدٌ لمعنىً واحدٍ، وإنما اختلف بحَسَبِ اختلاف الموارد. أَلا تَرَى أن الرشَّ في البحر لا يكون إلا بقدر عِظَمِهِ، وهو بالأمواج، وكذلك في النواضح. فهو في جميع المواضع بمعنى الرَّشِّ، إلا أن الرشَّ والرشَّ مختلفٌ، ومن هذا التحقيق اندفعت اعتراضات الخصوم بأسرها، ومع ذلك ول تَرَكَها الفقهاءُ لكان أحسن، فإِنه وإن صَحَّ باعتبار الأصل، إلا أنه يُوقِعُ الناس في الغلط وترجمته صحَّ عندي بالفارسية (شد) لا (درست شد) وكذلك ترجمة أجزاء (روان شد) وبالأردوية (كجهـ هو كيايا جل كيا).
قوله: (حُبُّك إيَّاها ... ) إلخ، وقد مرَّ أنه تصويبٌ للنية دون العمل، مع أنه سَبَقَ منه الاعتراض عليه أيضًا، حيث قال: «ما يَمْنَعُك أن تفعلَ ما يأمرك به أصحابُك»، وفيه: أن الأحسنَ أن لا يُعَيِّن سورةً من القرآن لشيءٍ من الصلوات، كما في «الكنز». واستثنى منه ابن نُجَيْم التقيد بالسور التي ثَبَتَت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم فالتعيينُ بقدره يجُوزُ.