ثم إن الدليلَ على أن التكرارَ في العشاء لم يكن عادةً له وإن كانت واقعة جزئية، ما ساقه أبو داود في باب تخفيف الصلاة، عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: «كان مُعَاذ رضي الله تعالى يُصَلِّي مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ثم يَرْجعُ فَيَؤُمُّنَا». قال مرة: «ثم يَرْجِعُ فيصلِّي بقومه». وهذا هو عادته وعادة قومه، وليس فيه أنه كان يُصَلِّي بهم عينَ ما كان يصلِّيها مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وبعد ذلك انتقل الراوي إلى بيان تلك الواقعة، فقال: «فأخَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلّم الصلاةَ - وقال مرةً: العشاء - فصلَّى مُعَاذ رضي الله عنه مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم الصلاةَ، ثم جاء يَؤُمُّ قومه، فقرأ البقرة» اهـ. وسياقه في المتفق عليه قال: «كان مُعَاذ بن جبل يُصَلِّي مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ثم يأتي فَيَؤُمُّ قومه. فصلَّى ليلةً مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم العشاءَ، ثم أتى قومه فأمَّهم». اهـ.

فانظر هل أدَّاه بطريق الواقعة، أو على شاكلة العادة، ثم انظر إلى ألفاظ الرجل الذي انحرف عن صلاته هل جعله عادةً، أو واقعةً؟ قالا: «وإن مُعَاذًا صلَّى معك العشاء، ثم أتى قومه فافتتح بسورة البقرة». فهذا كان من أمر معاذ رضي الله عنه، إلا أنه لمَّا ذُكِرَت واقعة العشاء فيما بعد، سَرَى إليَّ الوَهَمُ أن ما ذُكّرَ قبله من عادته هو أيضًا في العشاء، مع أنه ذَكَرَ أولا عادته، ثم انتقل إلى بيان الواقعة. والوَهَم يَعْمَلُ العجائب، وقد قيل: إن الوَهَم خلاق.

فإِذا تحقَّقت أنه لم تكن هناك إلا واقعة، وعليها غَضِبَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم غضبًا لم يَغْضَبْ مثله، تحقَّقت أن لا دليل فيها للشافعية، وللحنفية مَسَاغٌ لأن يجعلوا مورد الغضب الأمرين أعني: إطالته، وإعادته. ثم إني تتبعت هذه الواقعة أنها متى كانت، فتبيَّن لي أنها كانت قُبَيْل بدر، وقد ذكرناها في تقرير الترمذي.

هذا وبقي بعدُ خبايا في زوايا الكلام، والعلم عند الله العلام.

701 - قوله: (وأمره بسورتين) فليحفظ هذا اللفظ، لأن فيه أنه أمره بهما فَيَدُلُّ على الوجوب كما قال الحنفية؛ والشافعية لم يختاروا وجوب السورة، وإليه يُشِيرُ قوله: «فلولا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015