الفائدة الثانية: واعلم أنَّ القرآن لم يَتَعرض إلى تعيين أوقات الصَّلوات غير الفجر والعصر، فحدَّد أواخِرَهما بطُلوعِ الشمس وغروبِها، وأَمَّا سائر أوقاتها فَتَرَكها (?) على أسامِيها، كما ذَكَرَها الثَّعَالبي في «فقه اللغة» وراجع لها «شرح لأميةِ العجم» مِنْ قوله:
والشمس رأد الضحى كالشمس في الطفل
فإِنَّها كلَّها أسامي عُرْفية لا يُمكِن ضَبطها وتحديدها وإِنْ نُصَّ كالضحى، فإِنَّه اسم لجُزْءٍ مِنَ النَّهارِ يعلمه أَهل العُرْف بدون تَفَكُر، أمَّا لو شئتَ أَنْ تُحَدِّدَه تحديدًا لا وَكَس فيه ولا شطط، فلستُ أَرَاكَ تَقْدِر عليه، وعليه جاء القرآن فقال: {حِينَ تُمْسُونَ} فَذَكَر المساء والصباح، والظهيرة والعَشي، وهذه كلُّها أسامي لجُزْء جُزء مِنَ النَّهار، وإنَّما حَدَّدَ الفجر والعصر، لأنَّه، أمكن تحديدُها بالحس. ولذا انْعَقَد عليه الإِجماع، فلا يُعْلَم في آخرِ وقتِ الفجر والعصر خلاف يعتد به، إلا أَنَ الإِصْطَخري من الشافعية، وحسن بن زياد مِنَ الحنفية ذهبا إلى خُروجِ وقت الفجر بعد الإِسفار، لأن جبريل عليه السلام صلَّاها في اليوم الثاني حين أَسْفَرَ. وقال: الوقت ما بين هذين. وهو غريبٌ جدًا.
ولعلَّ مرادهما كراهة تَحرِّيها في ذلك الوقت، وليس مَذْهبًا لأحد أصلا، وإنَّما هو مِنْ ثَمَراتِ المبالغات، والشعف بالخلاف، كما قال بعض من الشافعية: إن الوتر بالثلاث باطل. وكذلك لم يَرِد في الأحاديث غير التقريب، ومَنْ حَمَلَها على غاية التَّحْدِيد، فقد تَكَلَّف بما لا يَقْدِر عليه هو، فإِذا لم تَقْدِر أنتَ على تَحْدِيدِ تلك الأوقات غير التقريب، فكيفَ ساغَ لك أَنْ تَحْمِل كلمات الرواة على أَنَّهم أرادوا به حق التعيين، أَلا تَرَى أَنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلّم لم يَأْمُر الرَّجُلَ حين جاء يسأله عن أَوْقَاتِها إلا بِأَنْ يُصَلِّي مَعَهُ يومين ويُشَاهِدَ أوقات الصَّلوات بعينِه ولم يَكتَفِ