لأجل المرض، مع أن فقهاءنا صرَّحوا أن أكثر مدة الحمل سنتان، ولم يكتب أحدٌ منهم أنها مدة طَبْعِيَّة. وأما بالعوارض فيمكن أن تزيد عليها، فلو كتبوه لاسترحنا.

وكان ينبغي للفقهاء أن يرجعوا إلى الأطباء. في مثل هذه الأمور، فإنّ لكل فنَ رجالًا، ثم إنه تحديد اجتهادي لا تحديد شرعي، والأصل فيما لم يَرِد فيه التعديد أن يرسل على حيالها ولا يقدَّر كما في أصول الفقه: أن نصب الحدود والمقادير لا يجوز بالقياس. ومرادهم من الحدود والمقادير كأعداد الرَّكَعَات ونحوها دون الحدود التي هي زواجر أو سواتر على اختلاف الرأيين، وعليه جرى السَّرخسِي رحمه الله تعالى في تحديد العمل الكثير والقليل، والماء القليل والكثير، ففوَّضه إلى رأي المبتَلَى به، وهكذا فعل في أَجَلِ السَّلَم وتعريف اللُّقَطَة، فأحاله على رأي المبتَلَى به، وإن حدده أصحابُ المتون.

ثم الأصل وإن كان هو التفويض إلا أنَّ نظامَ العالَم لا يستوي إلا بالتقدير، فإن كثيرًا من العوام ليس لهم رأي، ولا ينفع فيهم التفويض أصلًا، فيحتاج إلى التحديد لا محالة، فالتحديد من المجتهد فيما لم يَرِدْ به الشرع إنما هو لقضاء حوائج الناس، كما قالوا في مسألة الطُّهْر: إنه لا حدَّ لأكثره، ومع ذلك حدَّوده عند نَصْبِ العادة في زمن الاستمرار، وفي هذه المسألة ستة أقوال لمشايخنا. والمختار عندي أنها تخرج من عدتها في ثلاثة أشهر، ويُحْسَبُ شهرُها عن طُهر وطَمْثٍ، وهكذا في ممتدة الطهر حيث ليس لها حيلة على مذهبنا إلا بالتربُّص ثلاثة قروء، ولا شك أنه مُعْتَضِد بالنص، فإنها مطلَّقة، وهذه عدتها بالنص إلا أن طُهرها إذا امتدَّ وضاق عليها أمرها لجأنا إلى الإفتاء بمذهب مالك رحمه الله تعالى.

فكما أنهم اضطروا إلى التحديد في هذه المواضع لئلا تتعطل عن حوائجها، كذلك اضطروا إلى تحديد أقل الحيض وأكثره، وإن لم يتوقَّت في الخارج.

والحاصل: أن المجتهد في هذا التحديد مجبور ومأجور، بل أُهَنِّؤُهُم عليه حيث أخرجوا مخرجًا وسبيلًا للخلائق، وخلصوهم عن المضائق، ولعلك ما نسيتَ ما كنتُ ألقيتُ عليك في كتاب العلم أنَّ الحديثَ أيضًا قد يحتاج إلى الفقه في بعض المَلاحِظ، وهي أمثال هذه، فإنه لا يكفي لك فيها الاقتصار على الحديث، ولا يسع لك قطع النظر عن الفقه. فالفقه لا يتم بدون الحديث، لأن المرء إذا مرَّ بالحديث، وجال نظره فيه، وفَهِمَ مداركه ومعانيه، استقر على الفقه وسكن قلبه، حيث لم يجده رأيًا محضًا غيرَ مستنِدٍ إلى دليل سماوي، وكذلك الحديث لا يستقرّ مراده ولا ينقطع محتملاتُه بدون المراجعة إلى أقوال الفقهاء ومذاهب الأئمة. فإذا ادَّراها وأمعن النظر فيها تبيَّن له الوجوه، ولم يبق له فيما سواها مساغ.

فالفقه محتاج إلى الحديث في نفسه، والحديث محتاج إليه للعمل، وهكذا القرآن يبقى معلَّقًا بدون الرجوع إلى ألفاظ الحديث، وأعني بالتعليق أنَّ النظر لا يزال يتردد فيه، ولا يَقْنَع بشيء، حتى إذا رجع إلى الحديث استقر وسكن. وهذا لأن اللغة لم تتكفل إلا ببيان المعاني الموضوعة له دون مراد المتكلِّم، وهو ربما يتعسَّر تحصيلُه في كلام الناس، فكيف بالكلام

طور بواسطة نورين ميديا © 2015