تعالى مُحَالٌ، ولكنَّه جيء به على شأن خاطر عباده، لِيَعْلَمُوا ما قدْرِهم عند ربِّهم. وليس له لفظٌ لمثل هذا الموضع في عالمهم إلَّا هو، فحادثهم بحسب مجاري عُرْفِهم. هذا بحسب الجليِّ من النظر، وعند تدقيق النظر يَظْهَرُ أنَّ التفاتَه تعالى إلى أمرين متعارضين هو الذي عَنَى بالتردُّد، وعَبَّر عنه. فإنَّ اللَّهَ تعالى يتوجَّه أوَّلًا إلى توفِّي العبد، ثم إلى مَلاَلة العبد من موته، ولا بدَّ له منه في الدنيا، فكأنَّه مادةُ التردُّد للعبد. فإنَّ العبدَ إذا تردَّدَ فيما تتعارضُ فيه الجهات، فلا يَسْنَحُ له الترجيح، فيحدث له فيه التردُّد لا مَحَالَةَ. واللَّهُ سبحانه بريءٌ عن التردُّد، ولكنَّه عبَّر عنه في اللفظ، لكونه مادتَه عندهم.
وبعبارةٍ أخرى: إنص العبدَ يكره موتَه، ومَلَكُ الموت يجيء لتوفَّاه، فحدث صورة التصادم والتقابل، وتلك الصورة سُمِّيت بالتردُّد، وإلَّا فلا تردُّد في جَنَابِه تعالى، فإنَّه فعَّالٌ لِمَا يَشَاءُ، وحاكمٌ لِمَا يريدُ ثم إنَّ تلك الصورة أيضًا في المواطن التحتانية، وأمَّا في الفوق، فلا شيءَ منه. وهذا كما في الحديث: «إن البلأَ يَنْزِلُ من السماء، وتَصْعَدُ الصدقةُ إليه، فلا يزالان يَتَصَارَعَان إلى يوم القيامة، حتى لا يَنْزِلَ هذا، ولا يَصْعَدَ هذا»، أو كما قال. فأمعن النظرَ فيه، هل يُوهِمُ في الظاهر أن الصدقةَ تَرُدُّ من القَدَرِ شيئًا.
والوجهُ فيه: أنَّ هذا التصارعَ إنَّما هو في عالم الأسباب، وأمَّا عند ربك فقد جَفَّ القلمُ بما هو كائنٌ، وقد عُلِمَ من قبل أنَّ هذا البلاءَ يُرَدُّ عنه لأجل صدقته. ولمَّا كان ردّه من صدقته، لا بدَّ أن يَظْهَرَ هذا التعليقُ أيضًا في موطنٍ، وهو كما في الحديث. فهكذا لا تردُّد عند ربِّك أصلًا، ولكن لمَّا كانت مادةُ التردُّدَ ممَّا تتجاذبُ فيها الجهاتُ، وهي متحقِّقةٌ فيما نحن فيه، عبَّر عنه بالتردُّد بحسب هذا الموطن، مع أنَّه لا تردُّد عند ربك، فإنَّه لا صباحَ عنده ولا مساءَ، فافهم (?).