الحديثَ يُخْبِرُ أن الرحمةَ والغضبَ تَسَابقا، فَسَبَقَتْ رحمتُه غضبَه، فإذا سَبَقَتْ لَزِمَ أن لا يَبْقَى أحدٌ تحت غضبه تعالى، ويَدُخُلَ كلُّهم في رحمته تعالى، ويَخْلُصَ من عذاب الله عزَّ وجلَّ، ولو آخِرًا. وذلك لأن النارَ تكون طبيعةً لهم، فَيَعِيشُون فيها غير معذَّبين، لكونهم ناريي الطبع. كمائيِّ المَوْلِدِ، يَسْكُنُ في الماء، ولا يكون عليه ضيقٌ، وغيره لو سَكَنَ فيه مات من ساعته.
قلتُ: ومذهبُ الجمهور: أن جهنم عذابٌ سَرْمَدِيٌّ لمن فيها. قال تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء: 56]. وأمَّا السَّبْقِيَّة، فهي عندي في جانب المبدأ دون المنتهى، ومعناه: أن الرحمةَ والغضبَ تَسَابَقَا عند ربك، فسَبَقَتْ الرحمة قبل سَبْقِ الغضب، فتقدَّمت عليه من هذا الجانب. وذلك (?) لأن الغضبَ يَحِلُّ بالمعاصي، والرحمة منشؤها الجود، فتأتي من غير سببٍ ولا استحقاقٍ. بخلاف الغضب، فإنه يَنْتَظِرُ اقترافَ السيِّئات، واقتحام الموبقات، والرغبة عن التوبة، ثم التمادي في الغيِّ، فلا يأتي حين يأتي إلاَّ على مَهْلٍ، فتقدُّمها يَظْهَرُ في جانب المبدأ.
وأخذه الشيخُ الأكبرُ في الجهة الأخرى، فاضْطَرَّ إلى مخالفة الجمهور. ثم إن تلك القاعدةَ فوق القواعد كلِّها، فهي كاختيارات الملك، ولهذا وَضَعَهَا على العرش، على نحو ما قالوا في استواء الحضرة الرحمانيَّة على العرش. قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5] قالوا: إنه فوق العوالم كلِّها، فدخلت كلُّها تحت الرحمة. ولو استوى القهَّار على العرش، والعياذ بالله من قهره وجلاله، لَدَخَلَتْ كلُّها تحت القهر، فلم تَمْشِ على ظهر الأرض دابةٌ.
حكاية: حاجَّ إبليسُ، مع الشيخ عبد الله التُّسْتُرِي أنك تقولُ: إني أُعَذَّبُ في النار، وكيف يكون ذلك؟ مع أن الله تعالى أَخْبَرَ أن رَحْمَتَهُ وَسِعَتْ كل شيءٍ، أَلَسْتُ بشيءٍ؟ فَلِمَ أَدُخُلُ تحت الرحمة؟ فأجابه التُّسْتُري: أن الرحمةَ للذين يُقِيمُونَ الصلاة ويُؤْتُونَ الزكاة، وبربهم يُؤْمِنُون، ولَسْتَ منهم. فَضَحِكَ منه، وقال: كنتُ أَرَى أنك عالمٌ عارفٌ، فإذا أنت ممن لا يَعْرِفُ شيئًا، قيَّدْتَ صفاته المطلقة، فإن اللَّهَ تعالى قادرٌ على الإِطلاق، وخالقٌ على الإِطلاق، فكذا هو رحيمٌ على الإِطلاق، وأنت تقيِّدُها، فلم يَدْرِ التُّسْتُرِي ما يقول له.