والرُّقْيَةُ: (افسون)، وفي الهندية: (منتر). ولا يُقَالُ: إلا لِمَا اشتملت على كلماتٍ غير مشروعةٍ. وحينئذٍ كان المُنَاسِبُ أن لا تُسَمَّى العُوذَة، والكلمات المشروعة بالرُّقْيَة، مع أنهم يَسْتَعْمِلُونَها في تلك أيضًا.
واعلم أن ههنا مسألتين: الأولى: أخذُ الأُجْرَةِ على تعليم القرآن (?)، والأذان، والإقامة. ولا يَجُوزُ فيها أخذُ الأُجْرَةِ على المذهب، وإن أَفْتَى المتأخِّرون بجوازها. وتعليلُ صاحب «الهداية» يُوجِبُ عدم الجواز مطلقًا، وحينئذٍ استثناء المتأخِّرين يصَادِمُ المذهبَ صراحةً. نم يُسْتَفَادُ من تعليل قاضيخان: أن استثناءَ الأشياءِ المذكورةِ يُتَحَمَّلُ على المذهب أيضًا، فقال: إن الوظائفَ في الزمان الماضي كانت على بيت المال. ولمَّا انْعَدَمَ، عادت الفريضة على رقاب الناس، وعليه الاعتمادُ عندي. لأن رتبةَ قاضيخان أعلى من «الهداية»، كما صرَّح به العلامة القاسم بن قُطْلُوبُغَا.
والثانية: مسألةُ الأجرة على التعوُّذ، والرُّقْيَة، وهي حلالٌ لعدم كونها عبادةً.
قلتُ: ويتفرَّعُ على الأولى أن لا يَصِحَّ أخذُ الأُجْرَةِ على قراءة القرآن للميت، لأن الأجيرَ إذا لم يُحْرِزْ ثوابَ القراءة، فكيف يُعْطِيه للميت؟ نعم لو كان الخَتْمُ لمطالب دنيوية، طاب له الأُجْرَةُ، هكذا نَقَلَهُ الشاميُّ، وشيَّده بنقولٍ كثيرةٍ من أهل المذهب. وقد أَخْرَجْتُ الجواز من ثلاث كُتُبٍ للحنفية: منها «التفسير» للشاه عبد العزيز، فإنه ليَّنَ الكلامَ، وأجاز به.
ثم إن تلك الكُتُب، وإن كانت مرجوحةً من حيث الأصل، لكنه من دَأْبي القديم: أنه إذا ثَبَتَ التنوُّعُ في المسألة أُلَيِّنُ الكلامَ، وأَسْلُكُ مسلكَ الإِغماض، ولذا أُغْمِضُ عن تلك المسألة أيضًا. وما ظَنَّهُ بعضُ السفهاء من أن المنعَ فيما إذا أخذ الأُجْرَةَ أقل من أربعين دِرْهمًا، ونَسَبُوه إلى «المبسوط» فهو كذبٌ محضٌ، وافتراءٌ لا أصلَ له. ثم إذا عوَّذ كافرًا، ورأى أن عُوذَتَهُ تَشْتَمِلُ على كلماتٍ لا تَلِيقُ بشأن الكافر، ينبغي أن ينوي منها البركة فقط.
قوله: (أَحَقُّ ما أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللهِ)، وتمسَّكَ به الشافعيُّ على جواز أخذ الأُجْرَةِ على تعليم القرآن، وغيره. وهو عندنا محمولٌ على الرُّقْيَةِ، ونحوها. ووِزَانُه وِزَانُ قوله: «ليس مِنَ البرِّ الصيامُ في السَّفَرِ»، فجعل الصيامَ كأنه ليس فيه بِرٌّ. وعلى نَقِيضِه جعل أخذ الأُجْرَةِ ههنا، كأنه هو البرُّ كلُّه، فهذا نحو تعبيرٍ لا غير. لنا ما أخرجه أبو داود عن عُبَادَةَ بن الصَّامت: «أنه أهْدِيَ له قوسٌ ممَّن كان يُعَلِّمُهُ القرآن فسأل النبي صلى الله عليه وسلّم عنه، فقال له: إن أَرَدْتَ أن تُطَوَّقَ طوقًا من نار، فاقبلها». وراجع الهامش.