يدُلُّ عليه ما أخرجه أبو داود في حديث أحوال الصلاة والصيام عن مُعَاذ، قال: «فإن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يَصُومُ ثلاثةَ أيامٍ من كل شهرٍ، ويَصُومُ يوم عَاشُورَاء، فَأنْزَل الله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}، فكان من شَاءَ أن يَصُوم صام، ومن شاء أن يُفْطِرَ ويُطْعِمَ كل يومٍ مسكينًا أَجْزَأَهُ ذلك، فهذا حول، فأنزل الله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] فَثَبَتَ الصيامُ على من ثَبَتَ الشهر، وعلى المسافر أن يقضي، وثَبَتَ الطعامُ للشيخ الكبير والعجوز اللذين لا يستطيعان الصوم». اهـ.

فهذا نصٌّ في أن تلك الآيات في حقِّ الأيام البيض، وإنما افْتُرِضَ صيامُ رمضان من قوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ} .. إلخ. ومن ههنا ظَهَرَ وجهُ قوله: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} فإن ذلك الصيام كان في الأمم السالفة أيضًا. بخلاف رمضان. وحينئذٍ لا حاجةَ إلى التأويل في آية الفِدَا، كما قال قائلٌ، بحذف حرف النفي. أي معناه: لا يُطِيقُونَه.

قلتُ: وهو سفسطةٌ، فإنه يُوجِبَ رفع الأمان عن الكلام، حيث يتعذَّر الفرق بين المُثْبَت والمنفي، أو يتعسَّر، فإنَّا لا ندري أَمُثْبَتٌ هو أم مَنْفي؟ فإذا حَكَمْنا بكونه مُثْبَتَا ربما أمكن أن يكون مَنْفِيَّا بتقدير «لا» فإذن لا يمكن الجزم بكونه مُثْبَتَا أو مَنْفِيَّا، وهو كما ترى. وحاشا النحاة أن يتكلَّموا بمثله، وإنما ذَكَرُوا تقدير حرف النفي فيما إذا كان جواب القَسَم فعلا مضارعًا مُثْبَتَا، ولا يكون هناك من طلائع القَسَم، كما في قوله تعالى: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} [يوسف: 85] أي لا تَفْتَأُ، وليس ههنا شيءٌ منهما. ثم هذا أيضًا ليس بمرضيَ عندي، وإنما يُوخَذُ النفيُ في الصورة المذكورة من صورة الإِكفار، لا أنها محذوفةٌ، فيَذْكُرُون الفِعْلَ مُثْبَتًا، ويُؤْخَذُ منه النفيُ بصورة الإِكفار، فإن المرادَ منه النفيُ.

ولو تنبَّه النحاةُ على محاورة اللُّغات الأخرى لتركوه على أصله، ولم يَذْهَبُوا إلى التقدير. فإن التقديرَ بمثله يَمْحَقُ بهاء الكلام ورَوَاءَه لا سِيَّما في قوله: {يُطِيقُونَهُ} فإنه مُسْتَبْشَعٌ جدًا. ثم إنهم تعلَّموا هذا الجواب من «الكشاف»، ولم يُدْرِكُوا مراده، فحرَّفوه إلى يا ترى. قال الزَّمَخْشَرِيُّ ما حاصله: إن فِعْلَ الإِطاقة بمادته لا يُسْتَعْمَلُ إلا فيما يُتَعَذَّرُ أو يُتَعَسَّرُ، فإنك تقول: إني أُطِيقُ أن أَحْمِلَ هذا الحجر الثقيل، أو أن أَسْرُدَ في الصيام، أو أن أُصَلِّي الليلة كلَّها مثلا. ولا تقول أبدًا إنك تُطِيقَ أن ترفعَ اللُّقمةَ إلى فِيكَ، أو هذا القلم إلى أُذُنِكَ، أو نحو ذلك مما لا عُسْرَ فيه.

إذا عَلِمْتَ هذا، فاعلم أن الله تعالى لمّا ذكر الذين يُطِيقُون الصيامَ، عَلِمْنَا أنهم هم المعذورون الذين تعذَّر عليهم الصيام (?)، أو تعسَّر إلا بشِقِّ الأَنْفُس، وكأنهم سُلِبَتْ عنهم الطاقة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015