لأن هذا التبدل الذي تمَّ في ثلاثة أرباع القرن التي عشتها لا يقع مثله في ثلاثة قرون.
والمجتمعات (تتطور) دائماً، ولكن (تطورها) إن أسرع يمشي مشية الخيل التي بالغ الشاعر مبالغة جاوزت حد المعقول حين وصفها فقال:
وأجل علم البرق عنها أنها ... مرت بجانحتيه وهي ظنون
فصارت هذه المبالغة حقيقة، وغير المعقول معقولاً واقعاً، وصرنا ونحن في مكة نسمع الخطيب يخطب في أميركا قبل أن يسمعه من هو قاعد أمامه في النادي، لا مجازاً بل حقيقة لأن الصوت يصل إلى من في النادي من طريق الهواء، ويبلغنا بالموجات الكهرطيسية (أي الكهربائية المغناطيسية)، ولو صرخ النذير من فوق الجبل يحذرنا طيارة معادية قادمة علينا لوصلت الطيارة قبل أن نسمع الصوت، لأنَّ من الطيارات ما هو أسرع من الصوت، وإذا كان الشاعر قد مدح بطلاً بأنه (ينظم فارسين بطعنة) أو أنه يقتل من الأعداء مئة في غارة، فلقد رأينا غارة من المتمدنين أهل الحضارة، تقتل مئة ألف في هيروشيما في لحظة واحدة، جلهم من غير المحاربين وإنما هم من الأطفال والنساء والشيوخ العاجزين.
جدّ جديد في العلم لو خُبِّر به أعلم علماء الطبيعة من مئة وخمسين سنة لجنّ أو لحسب المُخبِر مجنوناً: صرنا نسمع المغنّي يغني لنا، وقد مات واستحال جسدُه إلا رفات.
كان الشعراء يصفون القمر، ويشبهون به الغيد الحسان فوصلنا إلى القمر ووطئناه بنعالنا، وإذا هو كالأرض: صخر ورمل وتراب.
...
وهذه كلها آيات لمن كان له قلب، ومن كان يفكر فيما يرى وما يسمع، آيات وشواهد تقوي الإيمان في القلب المؤمن، أما من كان كالأنعام همُّه الطعام والشراب والزواج فيمر عليها وهو غافل عنها، يقف عند الصنعة وينسى