قراها، فرأيته يسكن عند الفلاح في داره المبنيَّة من الأحجار السود المكدسات، بعضها فوق بعض، لا يمسكها أسمنت ولا طين، ولا يدري الساكن تحتها متى تهبط عليه فترديه قتيلاً. وفي هذه الدار غرف متعددات، في الأولى البقر، وفي الثانية الحمير، وفي الثالثة الخرفان، وفي الرابعة الفلاح وأسرته، يعيشون كما تعيش تلك البهائم. ولقد أمسكت بأنفي لما دخلت الغرفة ... لأن الرائحة كادت تقتلني: رائحة الدواب التي تأتي من هناك، ورائحة (الجلّة (?) ...) التي يوقدونها في وسط الغرفة، في حفرة حفروها فيها، لأنهم لا يملكون ثمن الحطب ولا الموقد، ولكني صبرت وولجت متوكلاً على الله. ولما صافحني الفلاح بيده المتشققة الخشنة شعرت كأني ألمس مبرداً، ولكني صبرت (أيضاً) لعلمي بأن هذه اليد الخشنة هي التي تقدم إليَّ الخبز الذي أعيش به، والمال الذي آخذ منه راتبي، وأشتري منه هذه الثياب التي أفتخر بها على الفلاح، وأخشى أن يدنسها بيته. ثم رأيت أطفاله وأردت نفسي على مداعبتهم، فإذا هم يحملون الأقذار على ثيابهم، والذباب على أفواههم، والقذى في عيونهم، والمرض في أجسامهم، وليس في القرية طبيب، وليس فيها دائرة صحة، وليس عند الفلاح مال، وليس عنده علم.

إن السادة الذين أخذوا ماله وثمرة كدّه لم يعلموه، ولم يعطوه أجرة الطبيب ... ثم جاء الفلاح بالأكل وأعقبه بالشاي، وإني أعفي القارئ من وصف هذا الأكل وهذا الشاي ... أخشى أن يصيبه الغثيان!.

ويعود بي الفكر إلى حوران، وقد زرت تلك القرية مرة ثانية، وكان ذلك في الحصاد، يوم حق لهذا الفلاح أن يتمتع بتعبه بعد سعي موسم كامل، يوم نال مكافأته على هذا التعب الطويل، والشغل المضني، فإذا الدائنون المرابون والجابي، ينتظرون على باب المنزل. فلما رجع الفلاح إلى منزله هاشاً باشاً مبتسماً، يحمل المال الذي حصل عليه بجدّ يمينه وعرق جبينه، اعترضوا طريقه قبل أن يصل إلى أولاده، فأخذوا المال كله فلم يف بالذي يطلبونه وبقي عليه للحكومة أربع وثلاثون ليرة ...

طور بواسطة نورين ميديا © 2015