قرناً كاملاً، وتجد بين الدار وأختها فرقاً هائلاً، في العمارة والفرش والذوق والترتيب، مع أنك تدخل بيوت عمارة يسكنها إنكليز أو فرنسيون فتحسّ على اختلاف الغنى والذوق، أن لها طابعاً عاماً يبدو على كل منها، وإن تفاوتت درجات ظهوره وخفائه؛ وتجد في الشارع ألواناً من الألبسة والأزياء، يحسبها الغريب أزياء عيد المساخر (الكرنفال). وادخل المدارس تجد في المناهج، وفي المبادئ العلمية والسياسية والاجتماعية التي تعرض على التلميذ، وفي آراء المدرسين ومذاهبهم (كرنفالاً) آخر؟ ولكنه أغرب وأشد اختلافاً، وأكبر ضرراً. وفي المبادئ الحقوقية في التشريع، وفي المذاهب البيانية في الأدب، وفي الصحافة وفي السينما وفي كل شيء (كرنفال) ضخم، ليس له يوم واحد ينقضي بانقضائه، ولكنه دائم باق ما له انقضاء.
وأنا لا أدعو لنبذ الحضارة الغربية، بل أدعو إلى أخذ ما ينفعنا منها، وأن لا نأخذها أخذ العامي للرادّ (الراديو)، لا يفهم منه إلا أنه يأتيه بالأصوات فيفتحه على مصراعيه، ويزعج به الجيران، ويكرّه إليهم الحياة بجواره، بل أخذ العالم الذي يعرف وجوه استعماله، ويدرك تركيبه، فيصلحه إذا فسد، ويكمله إذا وجده ناقصاً، ويصنع مثله أو يخترع أحسن منه، أي أن نتعلم علومهم، ونتقن فنونهم، وندرس أخلاقهم، ثم نرى ما يزيدنا منها قوة وسعادة، للفرد منا والجماعة، وسهولة في العمل، ولذة في المعيشة، فنأخذه كما هو أو نعدله حتى يصلح لنا، وأن ننقله إلينا، ونجعله ملكاً لنا، لا أن ننتقل به إلى أمة غير أمتنا، وطبيعة غير طبيعتنا، وأن ننظر ما فعله أجدادنا في أول العهد العباسي، مع الحضارة الفارسية مثلاً فنصنع مثله، إنهم أخذوا كل نافع في الطعام والشراب واللباس والمسكن وفنون القول وطرائق الفكر، ولكنهم لم يصيروا به فرساً، بل جعلوا به الفرس عرباً، أما أن نأخذ النافع والضار، والجليل والحقير، بلا فهم ولا علم، فهذا تقليد كتقليد القردة.
...
وبعد، فلماذا ننكر على هذا الرجل أنه فقد عزة الرجولة، واتخذ لباس لمرأة، ولا ننكر على الكثرة الكاثرة من هذه الأمة أنها فقدت عزتها، واعتدادها