وظلت المجالس والمحافل تعقد في كل مناسبة، وكان الأدب حليتها وبهجتها؛ يترنم الأديب بإلقاء أثره الأدبي، ويتغنى الراوي بترديده، ويستمتع الحاضرون بسحره وجماله، ويكفي شاهدًا على استمرار المجالس الأدبية وترديد الآثار الأدبية عن طريق الرواية والمشافهة وردود الأخبار الصحيحة عن حضور النبي صلى الله عليه وسلم هذه المجالس، وطلبه أن يسمع شيئًا من القطع الأدبية الممتازة، فمن ذلك ما يرويه صاحب الأغاني18 عن أنس بن مالك قال: "جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس ليس فيه إلا خزرجي، ثم استنشدهم قصيدة قيس بن الخطيم، يعني قوله:
أتعرف رسمًا كاطراد19 المذاهب ... لعَمْرةَ وحشًا غير موقف راكب
فأنشده بعضهم إياها، حتى بلغ إلى قوله.
أجالدهم يوم الحديقة حاسرًا ... كأن يدي بالسيف مخراق لاعب
فالتفت إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "هل كان كما ذكر؟ " فشهد له ثابت بن قيس بن شماس، وقال له: والذي بعثك بالحق يا رسول الله، لقد خرج إلينا يوم سابع عرسه وعليه غلالة وملحفة مورسة20 فجالدنا كما ذكر".
وكذلك كان الخلفاء الراشدون محبين للأدب، يروونه، وينشدون كثيرًا منه قال ابن سلام: "كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يكاد يعرض له أمر إلا أنشد فيه بيت شعر"21. ويروى كذلك أن "عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لبعض ولد هرم: أنشدني بعض مدح زهير أباك. فأنشده، فقال عمر: إنه كان ليحسن فيكم المدح. قال: ونحن إن كنا لنحسن له العطية. قال: قد ذهب ما أعطيتموه، وبقي ما أعطاكم". وفي رواية عمر بن شبة: قال عمر لابن زهير: "ما فعلت الحلل التي كساها هرم أباك؟ قال: أبلاها الدهر، قال: لكن الحلل التي كساها أبوك هرمًا لم يبلها الدهر"22.