أخرى، أما إطلاق الحكم وتفضيل أحدهما على الآخر جملة، فهذا ما يرفضه الآمدي ولا يجب أن يطلق على أيهما أشعر للتباين الناس في العلم واختلاف مذاهبهم في العشر ولا يرى لأحد أن يفعل ذلك، فيستهدف أحد الفريقين، لأن الناس لم يتفقوا على أي الأربعة أشعر: امرئ القيس، والنابغة وزهير، والأعشى، ولا على جرير، والفرزدق، والأخطل، ولا بشار ومروان. ولا على أبي نواس وأبي العتاهية ومسلم، لاختلاف آراء الناس في الشعر وتباين مذاهبهم فيه.
فإن كنت أدام الله سلامتك ممن يفضل سهل الكلام وقريبه، ويؤثر صحة السبك وحسن العبارة، وحلو اللفظ وكثرة الماء والرونق، فالبحتري أشعر عندك ضرورة.... وإن كنت تميل إلى الصنعة والمعاني الغامضة، التي تستخرج بالغوص والفكرة ولا تلوي على غير ذلك، فأبو تمام عندك أشعر، دون أن أفضل أحدهما على الآخر، ولكني أقارن بين قصيدتين من شعرهما إذا اتفقا في الوزن والقافية وإعراب القافية وبين معنى ومعنى، فأقول أيهما أشعر في تلك القصيدة، وفي تلك، ثم أحكم آلت حينئذٍ على جملة ما لكل فيهما، إذا أحطت علمًا بالجيد والرديء".
إذن فالآمدي لا يريد أن يتحيز لأحدهما على غير بينة أو عن هوى، إنما يلاحظ أن من ينتصر لهذا الشاعر أو ذاك إنما يفعل ذلك لميله إلى اتجاه خاص في الشعر، وأما هو فلا يريد أن يفصح بتفضيل أحدهما على الآخر تفضيلًا مطلقًا، ولكنه يقارن بينهما مقارنات موضوعية. ويترك الحكم الكلي للقارئ. وهذا بلا شك منهج علمي سليم. ومذهب رجل يرى المذاهب المختلفة، ويقبلها. ويسجلها، ثم منهج ناقد دقيق يرفض كل تعميم مخلّ ويقصر أحكامه على ما يعرض من تفاصيل.
ونستطيع أن نقرر أن الآمدي لم يقصد إلى التحيز لأحد الشاعرين ضد الآخر، وذلك إذا أخذنا بأقواله السابقة، ولكننا لا نستطيع أن نكتفي بتلك الأقوال فقد تكون روح الناقد الفعلية مخالفة للخطة التي يعلنها، وقد يكون في نقده ما يتعارض مع تلك الخطة.
يجب أن نفرض فرضًا كهذا، وذلك لأن كل تلك الأقوال لم تمنع النقاد اللاحقين بأن يتهموا الآمدي بالتعصب على أبي تمام، حتى بلغ الآمر أن رأى فيه الباحثون المحدثون مقابلًا للصولي في تعصبه لذلك الشاعر، فمن أين أتت هذه التهمة؟ !!