للأغاني والأمالي منا لنهاية الأرب أو صبح الأعشى.
نعم أن مصر الإسلامية قد آوت الثقافة العربية يوم فرت من وجه المغول، ولكنها كانت ثقافة فاترة منحلة سطحية. ولقد كان في ظروف مصر السياسية والاجتماعية ما زاد تلك الثقافة ضعفا، حتى أصبحت إما دراسات وحواشي وتعليقات وتصانيف، أو أدبا إنشائيا متكلفا لفظيا لا تدب فيه الحياة إلا بمقدار. والذي لا شك فيه أننا لم ننتعش إلا عندما بدأت حركة البعث للقديم. ولعل البارودي أن يكون أول ثمرة لذلك البعث إن لم يكن رائده بمختاراته وديوانه، وذلك في مجال اللغة وفن الشعر، كما أن جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده قد جددا من شباب الإسلام بدعوتهما إلى الرجوع إلى التقاليد الصحيحة والعدول عن الخرافات التي كانت قد أوشكت أن تقضي على حياتنا الروحية.
لقد حدث في مصر في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، ما يشبه إلى حد ما حركة البعث العلمي التي ازدهرت بأوربا في القرن التاسع عشر، حدث رجوع إلى القديم وبعث له، وكما أحيا الأوربيون تراث روما وأثينا كذلك أخذنا نحن نحيي تراث مكة والمدينة ودمشق وبغداد، وكذلك الأمر في المجال الروحي، فحركة جمال الدين الأفغاني والأستاذ الإمام قد صدرت عن روح شديدة الشبه بالروح التي صدر عنها لوثر وكلفن وزونجلي. هذا هو المنبع الأول نشير إليه ولكنه ليس موضع حديثنا اليوم.
وإنما نريد أن نتمهل عند المنبع الثاني الذي ينقلنا كتاب الحكيم إلى مرحلة جديدة من مراحله، ونعني به المنبع الأوربي الغربي، والملاحظ في تاريخنا الطويل أن مصر كانت بؤرة للثقافة اليونانية لمدة عشرة قرون كاملة "من 330ق. م-640م" أعني مدة البطالسة والرومان وبيزنطة، وهذا زمن طويل حتى في حياة الأمم.
ومن المعلوم أنه خلال تلك المدة كلها كانت لغة الثقافة والإدارة هي اللغة الإغريقية، وأن اللغة اللاتينية لم تستعمل إلا في الجيش. ومراسلات الحاكم مع الإمبراطور أيام الحكم الروماني. ولقد كان لنا أن ننتظر انتشار الثقافة الإغريقية بمصر بين المصريين، ومع ذلك فإن شيئا من هذا لم يحدث، فمصر لم تصبح إغريقية في يوم ما، كما أصبحت فيما بعد عربية بسرعة مدهشة، فلقد ظل المصريون بعيدين عن الإغريق، ظلوا يتكلمون اللغة المصرية ويكتبون الكتابة الديموتيقية، كما ظلوا متمكسين بدينهم وثقافتهم الموروثة، وهم لم يتخلوا عن شيء من خصائصهم الروحية إلا أمام المسيحية، ولا غرابة في ذلك، فلقد كان الشعب المصري طوال هذا الزمن في بؤس مادي وبؤس روحي