وإذا كان عبد الله نديم قد ترك مصر، وعطلت جريدته الوطنية الحرة، فإن الأسباب التي تدعو إلى ظهور مثلها في حرارتها وصدق لهجتها ومحاربتها الاستعمار الإنجليزي كانت قائمة، على الرغم من أن سياسة الإنجليز في أوائل عهد الاحتلال كانت ترمي إلى كم الأفواه، وقتل الروح الوطنية في نفوس دعاة الحرية، وإن تظاهروا بأنهم أطلقوا للصحافة العنان وتركوها حرةً تقول ما تشاء1؛ لأن كرومر ممثل الاحتلال بمصر لم يكن يأبه للصحافة وما قد تثيره من سخط, وتحت إمرته جيش إنجليزي جاثم على صدر الوادي يبطش بكل من تحدثه نفسه بالشغب، وعلى أن الصحافة في رأي كرومر كانت من الهوان والضعف بدرجة لا تدعو إلى القلق والاضطراب؛ وإذا بدر من إحدى الصحف ما يسيء إلى الإنجليز, أو يشوه سمعتهم بمصر, عاجلوها بالتعطيل, ولقد مرَّ بك كيف حاربوا مجلة العروة الوثقى ومنعوها من دخول مصر، وعطلوا جريدة الأهرام شهرًا2 لتنديدها بالسياسة الإنجليزية في سنة 1884، وتبطش يد الاستعمار بكثير من الجرائد لأتفه الأسباب فتعطل جريدة الوطن مع أنها موالية لهم، وتلغي الزمان، ومرآة الشرق لأنهما من محاربي الاحتلال.
وتاريخ الصحافة في هذه الحقبة متاثرة بعدة عوامل:
1- فتركيا كانت -على الرغم من ضعفها، وإذعانها للأمر الواقع في مصر- تحاول إثارة النفوس ضد الاحتلال الإنجليزي، ضنًّا بمصر الغنية أن تفلت من يدها إلى الأبد، وكان كثير من المصريين يدين لتركيا بالولاء، وهو ولاء ديني مبعثه وجود الخلافة العثمانية، والمسلمون مكلفون شرعًا بطاعة الخليفة، وكانت هذه النزعة تتملك قلوب الجمهرة الغالبة من المصريين وبعض السوريين المقيمين بها، وقد ظهر من الجرائد التي تحمل لواء هذه السياسة وتنفث الحمم