أجل, قد بقيت روح جمال الدين بمصر ترفرف على واديها في شخص محمد عبده1 وهو شيخ من صيم ريف مصر، وأرسله أبوه إلى الجامع الأحمدي ليتعلم كما يتعلم كثير من الناس بعد أن حفظ القرآن، ولكنه تمرد على هذ التعليم بعد سنة ونصف, حاول فيها أن يفك طلاسم "الأجرومية" فأعيته الحيل، فأيقن أنه غبيّ، وأنه غير مستعدٍّ لتلقي العلم, وصمَّمَ على العمل في الحقل كما يعمل إخوته وأهله؛ بيد أن والده أكرهه على الاستمرار في طلب العلم, فهرب إلى أحد أخوال أبيه هو:
الشيخ دوريش:
والشيخ دوريش من الشخصيات التي أثَّرت في عقل محمد عبده وفي نفسه وفي خلقه, وحددت له أهدافه في الحياة، ولا يذهبن بك الظن، فتتخيل أن الشيخ دوريشًا هذا فيلسوف أوتي الحكمة وفصل الخطاب، وأنه عالم من علماء التربية الأفذاذ, فلم يكن -علم الله- إلّا شيخًا صوفيًّا سليم العقيدة، نَيِّرَ البصيرة, على حظٍّ قليل من العلم وكثيرٍ من التجارب، فقد تتلمذ على السنوسي بطرابلس، وجاب بعض الأقطار يتلقى على رؤساء الصوفية طريقة الدعوة وسياسة النفس.
جاء الشيح محمد عبده إلى الشيخ دوريش هاربًا2 من العلم, وكان في الخامسة عشرة من عمره فتيًّا قويًّا مغرمًا بركوب الخيل واللهو مع أمثاله من الشباب، ولكن الشيح دوريش تلقَّاه كما يتلقى الطبيب المريض, وعالج هذه العقدة التي كونتها "الآجرومية" في نفس الفتى، وأعطاه كتابًا سهلًا في المواعظ