وأعظم مظاهر الجاهلية الحكم بغير ما أنزل الله، سواء على مستوى الحكومات أو الأفراد، مع أن الله عز وجل هو الذي خلق الخلق ويعلم بهم، فإذا كان الله عز وجل هو الذي خلقك وعدلك وسواك فلا بد أنه المستحق وحده لأن يعبد، وأن يحكم ويؤله، ولذلك لما عدل الناس عن شريعة الحكم الحق أنكر الله عز وجل ذلك فقال: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57] و (إن) هنا نافية، بمعنى: ليس الحكم إلا لله، كما نعى الله عز وجل عليهم تنكبهم الطريق ومخالفتهم الصراط فقال: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة:50]، أي: أفحكم الجاهلية تريدون، وتعدلون عن حكم الحكم الملك الحق الذي هو أرحم بعباده من الوالدة بولدها؟! يقول ابن كثير عليه رحمة الله في هذه الآية: ينعى الله عز وجل على من ترك حكمه وذهب إلى حثالة عقول الناس وضلالاتهم، خاصة ما كان من التتار الذين أخذوا دينهم عن ملكهم جنكيز خان الذي ألف لهم (الياسق)، وهو كتاب أخذه من شرائع شتى، من اليهودية والنصرانية والإسلام، ومعظمها من نظره وهواه، فجاء أبناؤه من بعده فاتخذوا هذا الياسق ديناً لهم، وللأسف لا تزال الأمة إلى يومنا هذا تتخذ دينها وحكمها من عصارة وحثالة العقول الشرقية والغربية، وكنا نقول سابقاً: إن هذه القوانين الوضعية لا تصلح إلا في بلاد أنتجتها وخرجت منها، لكنا صححنا ذلك الآن فنقول: إن هذه البلاد والعباد لا يصلحها إلا شريعة الحكم تبارك وتعالى، وأن هذه القوانين الوضعية لا تصلح لإصلاح واحد فقط من العباد، لا مؤمنهم ولا كافرهم، حتى يحكم ويتحاكم إلى شريعة الله عز وجل، ولذلك يقول ابن كثير: فمن تحاكم إلى هذا الياسق فهو كافر خارج من الملة حتى يحكم شرع الله فيه.
كما ذكر عز وجل خلقاً آخر من أخلاق الجاهلية في أمر النساء فقال: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب:33] قوله: (وقرن في بيوتكن) أمر يفيد الوجوب، (ولا تبرجن تبرج الجاهلية) والجاهلية الأولى هي التي قبل الإسلام بلا خلاف، لكن كيف كانت هذه الجاهلية؟! يقول مجاهد: كانت المرأة تخرج فتضرب الخمار عليها ثم تمشي بين الرجال.
فهذا تبرج في الجاهلية الأولى! بل هي المرأة الملتزمة في هذا الزمان، ودعونا من قول مجاهد إلى قول مقاتل بن حيان: تبرج الجاهلية الأولى هو أن تضرب المرأة الخمار، لكنها لا تشده على رأسها، أي: لا تربطه وتحكمه، فيبدو خرصها وعنقها وقلادتها.
فلو بعث فينا مقاتل ورأى هذا العري وهذا الفجور وهذا السفور والمرأة لا تكاد تخفي شيئاً لزوجها ماذا يقول عنها؟ ولذلك صدق النبي عليه الصلاة والسلام حين قال: (صنفان من أمتي)، أي: نوعان من أمتي، (لم أرهما)، أي: لم يكونا موجودين في زمن النبوة، (هما من أهل النار)، أي: أن حكمهم النار، (قوم معهم سياط كأذناب البقر)، أي: كذيول البقر، (يضربون بها الناس)، فمنهم من يضرب الناس بهذه الأذناب لأجل مخالفاتهم ومعاصيهم وكفرهم، ومنهم من يضرب الناس بهذه السياط لأجل توحيدهم وعبادتهم لربهم ونشرهم لسنة نبيهم ودعوتهم إلى الله، والكل معروض على الله عز وجل، (ونساء)، وهو الصنف الثاني، (كاسيات عاريات مائلات مميلات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة)، فتمشي المرأة تتبختر وتتكسر وتتغنج، (لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)، وفي رواية (ليوجد من مسيرة خمسمائة عام)، فهؤلاء لا يشمون رائحة الجنة؛ لأنهم محرومون منها بسبب معاصيهم وتسلطهم على أهل الإيمان والتوحيد.
أسأل الله تبارك وتعالى أن يتجاوز عن هذه الأمة، وأن يغفر لها زلاتها، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، ولنا وقفة أخرى في أيام مقبلة بإذن الله تعالى لإتمام الحديث.