الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على رسوله المصطفى، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث المعرور بن سويد أنه قال: (مررنا بـ أبي ذر في الربذة -اسم مكان- وعليه برد وعلى غلامه برد، فقلنا: يا أبا ذر! لو جمعتهما لكانت حلة -والحلة عند العرب هي ما كانت من ثوبين، والبرد: ثوب واحد- فقال أبو ذر: إنه كان بيني وبين رجل من إخواني كلام -وهو بلال بن رباح كما جاء ذلك مبيناً في رواية أخرى- وكانت أمه أعجمية، فعيرته بها، وفي غير الصحيح أنه قال له: يا ابن السوداء! فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا ذر! إنك امرؤ فيك جاهلية، قلت: يا رسول الله! أفي يومي هذا؟)، أي: بعد هذا العمر الطويل ما زالت عندي آثار الجاهلية، قال: (نعم، هم إخوانكم وخولكم -أي: وخدمكم- جعلهم الله تحت أيديكم، فأطعموهم مما تطعمون، وألبسوهم مما تلبسون، ولا تكلفوهم من العمل إلا ما يطيقون، فإن كلفتموهم فأعينوهم).
وقد أخرج البخاري عليه رحمة الله تعالى هذا الحديث في كتاب الإيمان، باب: المعاصي من أمر الجاهلية؛ إذ إن كل من وقع في معصية ففيه شعبة من شعب الجاهلية، لكن هل يبقى في هذا المجتمع المسلم أو في أمة الإسلام سنن حية كما كان ذلك في الصدر الأول أم أنها الآن أمة جاهلية؟ انظروا إلى حلم الله ولطفه بهذه الأمة التي ظهرت فيها جميع المعاصي والخطايا والبلايا، والتي كانت المعصية الواحدة سبباً في إهلاك أمة من الأمم، فاللواط مثلاً كان سبباً في إهلاك قوم لوط، وتطفيف الكيل والميزان كان سبباً في إهلاك قوم شعيب، فتأمل أن هذه المعاصي جميعاً وغيرها مما لم يكن موجوداً في الأمم السالفة قد اجتمعت في هذه الأمة، مع أن هذه الأمة ما زالت باقية، فهل لكرامة هذه الأمة على الله؟! أم هل لأن الله يحب المعاصي، أو يحب أن يعصى؟! أبداً والله، وإنما ذلك لحكمة علمها من علمها، وجهلها من جهلها، فاتقوا الله عز وجل أيها الإخوة الكرام، فإن صاحب المعصية هو صاحب جهالة، وفيه خلق من أخلاق الجاهلية، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ليس منا من خبب امرأة على زوجها)، أي: ليس من أخلاقنا ولا من هدينا، وإنما ذلك من أخلاق الجاهلية، ومثله قوله عليه الصلاة والسلام: (ليس منا من غير منار الأرض ليضل الناس، ليس منا من أظل الأعمى عن الطريق)، أي: يسأله شخص عن المكان الفلاني فيضله عنه، فهذه ليست من أخلاق المسلمين، وإنما هذه من أخلاق الجاهلية، قال النبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه أبو داود: (إن الله عز وجل قد أذهب عنكم عبية الجاهلية)، أي: أخلاقها وسماتها، ففرض عليكم ألا تتخلقوا بذلك، فالناس مؤمن تقي، وفاجر شقي، ولا ثالث لهما، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (أنتم لآدم وآدم من تراب، وليدعن أقوام فخرهم بآبائهم، إنما هم فحم من فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله عز وجل من الجعلان التي تدفع النتن بأنفها)، فأنت الآن إذا قلت لرجل قائم على معصية: لم فعلت هذا يا فلان؟ يقول لك: ومن أنت حتى تأمرني؟ أما علمت أنني ابن فلان، وأبي الأمير فلان، أو أبي شيخ في الأزهر، أو تقول له: لم تفطر في نهار رمضان؟ سيرد عليك: أما علمت أن والدي من أكابر أهل العلم! وغير ذلك من الردود الجاهلة.
قوله: (ليدعن أقوام فخرهم بآبائهم)، فإن هذا من أخلاق الجاهلية، (أو ليكونن أهون على الله عز وجل من الجعلان)، أي: تلك الحشرات التي لا قيمة لها، والتي تدفع النتن بأنفها، إذ إنها تعيش في النتن والجيف.