فهذا حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما فيما رواه البخاري في كتاب الفتن ومسلم في كتاب الإمارة يقول: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر)، وهذا تقرير من حذيفة يصف ما قبل البعثة، (فجاءنا الله بهذا الخير)، أي: بالإسلام، فهو خير كله، (فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، قال: فهل بعد هذا الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن.
قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يستنون بغير سنتي، ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر)، فأحياناً يقولون بالحق وأكثر أحوالهم يقولون بالباطل، أي: شر ودخن وغبش عكر هذا الخير وأثر في هذا الإسلام، (قلت: فهل بعد هذا الخير الذي فيه دخن من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم)، الدعاة دائماً على باب الجنة يدعون الناس إلى الخير، لكن تصور أن إماماً تكون إمامته في الشر، وفي الدعوة إلى النار والعياذ بالله، ثم يرفع النبي عليه الصلاة والسلام حجة الأتباع فيقول: (من أجابهم إليها قذفوه فيها)، فلا حجة لك في أن تتبع أئمة الضلالة، (قلت: يا رسول الله! صفهم لنا)، تصور حذيفة أن هؤلاء الدعاة ليسوا من أبناء الملة، فرد ذلك النبي عليه الصلاة والسلام فقال: (هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا)، أي: يقولون: قال الله وقال رسوله، لكنهم يلوون النصوص ويصرفونها ويؤولونها على غير مراد الله عز وجل، وعلى غير مراد رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.
قلت: (يا رسول الله! -في وسط هذا المأزق- فماذا تأمرني إن أدركني ذلك اليوم؟) فالله عز وجل قد هيأ لك حذيفة ليسأل هذه الأسئلة؛ لأنها تلزمك في كل عصر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، قال: (تلزم جماعة المسلمين وإمامهم)؛ لأنها نجاة، ومن فارق الجماعة قيد شبر فمات فميتته جاهلية، (قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام فماذا أصنع؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يأتيك الموت وأنت على ذلك).
الشاهد من الحديث: (إنا كنا في جاهلية وشر)، والجاهلية هي تلك الحقبة الزمنية التي سبقت مبعث النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا على العموم والإطلاق، لكن هناك نوع آخر من الجاهلية يكون في الإسلام وفي أبناء الإسلام، فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما أنه قال: (كنا في غداة مع النبي صلى الله عليه وسلم فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين)، كل ينادي على قومه وعشيرته، حتى اصطف الناس: الأنصار في ناحية والمهاجرون في ناحية، فخرج النبي عليه الصلاة والسلام ومشى بين الصفين فقال: ما هذا؟ ينكر خلقاً ليس من أخلاق الإسلام، ثم قال: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟!) فقالوا: يا رسول الله! أي دعوى جاهلية ونحن قد أسلمنا؟! ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: (دعوها)، أي: دعوى الجاهلية، (فإنها منتنة)، ثم تركهم وانصرف، وسار كل قوم إلى خيامهم، وهم يعلمون علم اليقين أن ما كانوا عليه في الجاهلية هو خلق ذميم، أي: أن تنصر العشيرة ولدها في حالة ظلمه أو في حالة ظلامته، في حالة أن يكون له الحق أو عليه، ولذلك أرسى النبي عليه الصلاة والسلام القاعدة الأم في النصرة فقال: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً.
قالوا: يا رسول الله! ننصره مظلوماً، فكيف ننصره ظالماً؟! فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أن تكفه عن الظلم، فذاك نصرك إياه)، من منا يفعل هذا؟ إن الواحد منا إذا سمع أن أخاه في شجار أو خصومة دون أن يتحقق من شيء، ودون أن يسمع شيئاً، لا بد أن أخاه المنتصر، لا بد أن أخاه المظلوم، وأنه سينتصر له عاجلاً أو آجلاً، حتى وإن كان الجذع في عينه، أي: حتى وإن كان مخطئاً لا بد وأن ينتصر له، فأي أخلاق هذه؟! إنها أخلاق الجاهلية، نسأل الله تبارك وتعالى السلامة لنا ولكم في ديننا ودنيانا، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.