ثم يقول النبي عليه الصلاة والسلام بنبرة استعلاء المؤمن بإيمانه على هذا الواقع الباطل: (ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية موضوع تحت قدمي)، فانظروا إلى هذه النظرة الاستعلائية على كل شيء من أخلاق الجاهلية، وصفات الجاهلية، وأعراف الجاهلية، وأحكام الجاهلية، ومنها: أن رجلاً من المهاجرين كسع رجلاً من الأنصار من خلفه فوقع على الأرض، فقام الأنصاري وقال: يا للأنصار! وقال المهاجري: يا للمهاجرين! أخذاً بأعراف الجاهلية: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) على ظاهر النص.
فلما اجتمع الصفان وكادا أن يلتحما خرج إليهما النبي صلى الله عليه وسلم وهو يمشي مطأطئ الرأس، فقال: (دعوها فإنها منتنة)، فانصرف المهاجرون إلى رحالهم والأنصار إلى رحالهم عملاً بقول النبي عليه الصلاة والسلام، وامتثالاً لأمره عليه الصلاة والسلام، وانتهت هذه الدعوى الجاهلية.
وكذلك لما عير أبو ذر بلالاً بأمه فقال له: يا ابن السوداء! فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا أبا ذر أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية، قال: أو على حين ساعة يا رسول الله! -أي: بعد هذا العمر في الإسلام والإيمان والعمل الصالح- قال: نعم، إنك امرؤ فيك جاهلية).
وبوب البخاري لهذا الحديث بقوله: المعاصي من أمر الجاهلية.
ولذلك كل من فيه معصية واحدة ففيه خلق من أخلاق الجاهلية، وإذا كان اثنتان فاثنتان، وعشر فعشر، ومن شاء أن يستزيد زاد، ومن شاء أن يستقل استقل، ففي كل منا أخلاق الجاهلية على قدر ما فيه من المعاصي التي حرمها الله علينا الله تعالى ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه أبو داود والترمذي من حديث أبي هريرة: (إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية -يعني: أخلاق الجاهلية- وفخرها بالآباء؛ مؤمن تقي وفاجر شقي، الناس لآدم وآدم من تراب، وليدعن أقوام فخرهم بآبائهم إنما هم فحم من فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع النتن بأنفها).
فإما أن تدع أخلاق الجاهلية وإما أن تكون عند الله أهون وأحقر من تلك الحشرات التي تدفع النتن بأنفها، فتكون هذه الحشرات أكرم على الله عز وجل منك أيها العاصي والمنافق والكافر والمعاند لربك.
فهذا حكم من عاند الله تعالى ورسوله، ومن جحد دين الله، وجحد شرع الله، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يدعونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة، والنائحة إن لم تتب قبل موتها أتت وعليها سربال من قطران ودرع من جرب).
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ليس منا من غير منار الأرض، ليس منا من خبب امرأة على زوجها)، يعني: أفسدها على زوجها، وغير ذلك من أقواله: ليس منا، ليس منا، ليس منا، وكذلك قوله: من فعل كذا فأنا منه بريء، من فعل كذا فقد خرج من ذمة الله، وغير ذلك من النصوص الوعيدية التي تدل على أن الجرم كبيرة من الكبائر، وأن المجرم والفاعل لذلك يجب عليه أن يتوب إلى الله، أو يقام عليه الحد إن استوجب فعله الحد، أو أنه في مشيئة الله تعالى، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.
ثم يبين النبي صلى الله عليه وسلم القدوة من نفسه لهذه الأمة المباركة، حتى لا يقول أحد: لم يأمرنا النبي بفعل شيء ولا يفعله، أو ينهانا عن شيء ويأتيه؟ كما جاء في الصحيحين من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يلقى بالرجل في نار جهنم فتندلق أقتاب بطنه -أي: أمعاؤه- فيدور حولها كما يدور الحمار في الرحى، فيجتمع إليه الناس فيقولون: يا فلان ما بالك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: بلى، كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه)، فهذا جزاؤه وإن كان عالماً، وإن كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، إلا أنه استوجب النار بتركه العمل بما علم، وكذلك يمكن للمرء أن يكون عالماً عاملاً بما يعلم، لكنه ليس مخلصاً، فيكون جزاؤه النار كذلك.
ولذا قال عليه الصلاة والسلام: (أول من تسعر بهم جهنم ثلاثة، وعدَّ: المجاهد والعالم والجواد)؛ لأنهم ما فعلوا ذلك، وما عملوا بما علموا إلا ابتغاء مدحة الناس، أما لو مدح المخلصون بغير طلب منهم ولا سعادة بذلك ولا انتظار لذلك فهذا من عاجل بشرى المؤمن في الحياة الدنيا، بينما الإنسان الذي لا يعمل العمل إلا لأجل مدحة الناس وثناء الناس عليه فإن هذا قد أهلك نفسه بنفسه، ثم يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (أبغض الناس إلى الله من ابتغى في الإسلام سنة الجاهلية)، أي: أبغض الناس إلى الله من حكم في المسلمين شرعاً غير شرع الله، كأن يحملهم على أحكام وقوانين أوروبا وأمريكا، فهذا لا ينفع المسلمين ولا ينفع بلاد الإسلام، وإن ينفع فر