وإن اكتفى بما يأتي به الدرس، ولم تكن له ملكة قط، جاء بشعر صحيح اللغة مستقيم الوزن، لكنه خال من الطبع ومن العاطفة ومن الروح، تقرؤه فلا يهز أوتار قلبك، ولا يثير فيها ذكرى محبَّبة، ولا أملاً مشتهى.
وأكثر الشعراء يجمعون الأمرين، على تفاوت حظوظهم منهما، فمن غلبت عليه الملكة كان شاعراً مطبوعاً عبقرياً، ومن غلبت عليه الصناعة كان شاعراً نابغاً مجوداً.
والفرق بين العبقري والنابغة، أن النابغة في كل فن من الفنون يمشي على رأس القافلة، سابقاً أبداً، أما العبقري فإنه يدع طريقها، ويذهب فيشق لنفسه وللناس طريقاً جديداً.
وشاعر النبوغ والقريحة، لا يظهر فنّه إلا بعد أن يكتمل درسه وتحصيله، ويتدرَّج فيه تدرُّجاً، أما شاعر العبقرية فيظهر فنه فجأة، ويكون على الغالب مبكراً فيه، وربما كمنت عبقريته أيام الصغر إذا لم تجد ما يثيرها فظهرت عند الكبر.
وشاعر القريحة يتبع نمطاً واحداً، فترى شعره كطيَّارات السياحة التي تطير على علوٍّ واحد، وسرعة واحدة، لا تخالفها، وشاعر العبقرية يأتي بالعالي النادر الذي لا يتعلَّق به أحد، ويأتي بالمضحك المزري أو المرذول التافه، كالطيارة المقاتلة تعلو حتى تسامي النجم، ثم تسِفّ حتى تمسّ الأرض.
وشاعر القريحة يجود وينقح ويصحِّح، ويعود على ما ينظم بالنظرة بعد النظرة ولا يخرج شعره إلا بعد الزمن الطويل، وشاعر العبقرية، ينصبّ عليه الشعر انصباباً، فيتمخّض به تمخّض النفساء، فلا يهدأ حتى يأتي وليداً كاملاً وقلَّما يعود عليه بتنقيح وتصحيح.
وإن شئت الأمثلة، فعندك امرؤ القيس وهو شاعر عبقري شقًّ للناس طرقاً في الشعر وعلَّمهم بكاء الديار والغزل العذري والقصصي والإباحي وإلى جنبه النابغة وزهير من شعراء القريحة. وبشَّار وأبو نواس وأبو العتاهية من