البيئة، وثانيهما هذا الذي كوَّنته الثقافة. وليس في هذا القول شيء من الغلوّ، بل هو الحقيقة بعينها نراها في حياتنا اليومية في الكثير من الشباب الناشئين في بيئة عربية إسلامية؛ إذ تخالط قلوبهم الثقافة الغربية المشوَّهة، فلا تلبث حتى تجعل منهم شبَّاناً ملحدين؛ يعادون العربية ويؤذون الإسلام.
وإن عاملاً له هذه القوَّة، لا بد لمؤرِّخ الأدب من العناية به، والجدِّ في درسه، ومن أن ينظر فيمن يدرس من الأدباء، هل كان نصيبه من الثقافة كبيراً؟ وما هو لون هذه الثقافة؟ وعمَّن تلقَّاها؟ وما هو أثرها في نفسه؟ وما هو أثرها في أدبه؟ هل استطاعت أن تعدِّل أثر البيئة؟ أو تضعفه؟ هل بدَّلت أخلاق الأديب وسجاياه؟ هل هضمها أم ظهرت كما هي في آثاره الأدبية؟
ما هي الصلة بين فلسفة المعرِّي وثقافته التي حصَّلها؟ ما هو عمل ثقافة الجاحظ في تكوين أدب الجاحظ؟
ثم إننا حيال لونين من ألوان الثقافة: الثقافة اللغوية - إن صحَّ تسميتها ثقافة - ولها عمل كبير في تكوين الأدباء العباسيين الذين كانوا عرباً فسدت لغاتهم، أو من غير العرب، ولم يكن لهم سبيل إلى إتقان العربية إلا بالتعلُّم والدرس والمثابرة، وكثرة الخروج إلى البوادي التي كانت تحتفظ بلغتها الأولى الصحيحة، وهذه الثقافة لا بدَّ منها، لأن اللغة هي وسيلة الإبانة والتعبير عما في النفس، ولايقوي الأدب إلَّا عليها، وعلى مقدار تفاوت حظوظ الأدباء منها تتفاوت حظوظهم من البلاغة والبيان.
والثقافة الفكرية -أو الثقافة على الإطلاق- من دين وعلم وفلسفة، لم يكن للأدباء حظ واحد منها، وإنَّا لنعرف من الأدباء العباسيين من يجهلها مرَّة واحدة، وقد نسيت أن أستثني الدِّين الذي لم يكن يجهله (ولا ينبغي أن يجهله) أحد، ونعرف منهم من ألمَّ منها بطرف، ونعرف قليلاً من الأدباء كالجاحظ والمعري كان لهم منها أوفر نصيب.
والخلاصة أن على طالب البكالوريا أن يعرف ميل الأديب إلى الثقافة ومبلغ اتِّصاله بها؛ ويعرف من هم شيوخه الذين أقرؤوه، وما هي الفنون التي قرأها، وما هو مبلغ تأثير ذلك في أدبه.