حقاً، ولا يُبطل باطلاً، ولا يصنع شيئاً أكثر من تنفير الطلاب من الأدب، وتسويده في أعينهم، ذلك لأن شعب الأدب في صفوف البكالوريا تسير في طريق أعوج أبعد ما يكون عن بثِّ الملكة الأدبية في نفس الطالب. وكيف تكوّن الملكة الأدبية طائفة من أخبار الشاعر وأشعاره يستظهرها الطالب من غير أن يفهمها غالباً، ويحتفظ بها في دماغه إلى يوم الامتحان، فإذا أدَّاه ونال الشهادة أهملها، أو دخله الغرور فظن أن معنى (بكالوريوس في الآداب) كاتب أو أديب، فزهد في المطالعة، وانصرف عنها أو طالع ما يقع تحت يده من الكتب والمجلات حتى ابتلي بسوء الهضم، وأصيب بالتخمة العقلية ... فترك القراءة وذهب إلى الندى (القهوة) يقطع عمره في النرد والشطرنج ثم يعمد إلى الكتابة في موضوع علمي أو فلسفي دوِّنت فيه عشرات المجلدات من غير أن يقرأ منها شيئاً ...
ثم إن طلاب شعب الأدب في صفوف البكالوريا لا يستطيعون أن يستعينوا بالثقافة العامة التي يتلقونها في المدرسة، ولا يعرفون كيف يستفيدون من علم الغريزة (الفسلجة) أو علم النفس أو التاريخ في بحوثهم الأدبية ولا يعرفون شيئاً من مناهج النقد، وقواعد التحليل الأدبي، لا لأن الطلاب كسالى أو بلداء، فالطلاب يدرسون الأدب الفرنسي فيسيغونه، ويدرسون الرياضة فيفهمونها، ويدرسون أشياء كثيرة غير هذه يضيقون ببعضها ويتبرَّمون به، ويقبلون على بعضها ويحبونه، ويجدون لذلك كله أثراً في نفوسهم، فإذا جاء الأدب العربي وجدت أكثر الطلاب لم يلذّوه ولم يبق في نفوسهم أثراً.
وسبب ذلك أن أكثر المدرسين عاجزون عن أداء هذه المهمة التي انتدبوا أنفسهم لها، أو انتدبهم لها من بيدهم مقاليد الأمور، لشهرتهم الأدبية أو لشهادتهم العالية، أو لشيء غير ذلك له صلة ضعيفة، أو لا صلة له بالأدب قط. وأكثر المدرسين اليوم بين رجلين: رجل ثقف الأدب العربي القديم ثقافة حسنة، وضرب بالسهم الوافر في علوم العربية نحوها وصرفها، وبلاغتها وعروضها، ونقدها وروايتها، وحفظ أيام العرب وأمثالهم واستطاع أن يفهمها حق فهمها، وينقدها نقد بصير بها، ولكنه عجز عن أن يدرسها ويدرس رجالها دراسة تحليلية صحيحة لجهله الآداب الأجنبية، وجهله قواعد النقد الحديث.