قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب الإحرام].
والإحرام: هو نية الدخول في النسك.
وهذا الإحرام يجب أن يكون من الميقات، ولذا قال: [وهو واجب من الميقات]، فلا يجوز له أن يتجاوز الميقات إلا بإحرام، فمن كان ميقاته ذا الحليفة كأن يكون من أهل المدينة أو من يأتي من طريقهم فإنه يحرم من هذا الميقات ولا يتجاوزه إلا بإحرام، ولو أحرم قبله أجزأ بإجماع العلماء.
فلو أن رجلاً خرج من الدوحة إلى مكة محرماً قد نوى الدخول في النسك، فإن ذلك يجزئ وإن كان خلاف الأولى.
وقد وقت النبي عليه الصلاة والسلام خمسة مواقيت، فقد ثبت في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: (وقت النبي عليه الصلاة والسلام لأهل المدينة ذي الحليفة، ولأهل الشام -وفي رواية عند النسائي: ومصر- الجحفة، ولأهل اليمن يلملم، ولأهل نجد قرناً) وهو قرن المنازل، والقرن هو الجبل المنفرد، (هن لهن ولمن أتى عليهن من غيرهن ممن أراد الحج والعمرة، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة).
هذا الحديث المتفق عليه فيه أربعة مواقيت.
وفي النسائي وأبي داود: (أن النبي عليه الصلاة والسلام وقت لأهل العراق ذات عرق).
وفي البخاري: أن أهل المصرين -أي الكوفة والبصرة- أتوا إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالوا: يا أمير المؤمنين! إن النبي عليه الصلاة والسلام قد وقت لأهل نجد قرناً وإنه دور عن طريقنا، وإن أردنا قرناً شق ذلك علينا فقال لهم: انظروا إلى حذوه، فوقت لهم ذات عرق]، فقد خفي هذا التأقيت على عمر رضي الله عنه فاجتهد فأصاب السنة رضي الله تعالى عنه.
إذاً: هذه خمسة مواقيت وقتها النبي عليه الصلاة والسلام للمريد للنسك من حج أو عمرة، فليس له أن يتجاوز هذه المواقيت إلا بإحرام أولها: ذو الحليفة، ويسميه العامة بآبار علي، ولا أصل لهذه التسمية، والعامة يعتقدون أن علياً قاتل الجن في هذه الآبار، وهذا كذب لا أصل له.
أما الميقات الثاني فهو ميقات الجحفة، وهذا الميقات انتقلت إليه حمى يثرب، فقد دعا النبي عليه الصلاة والسلام أن تنتقل حمى يثرب إلى الجحفة، فاتخذ الناس رابغ ميقاتاً لأنها بحذوه.
وتبعد رابغ عن مكة نحو خمس مراحل، وكل مرحلة نحو أربعين كيلاً، والمرحلة هي سير الإبل في اليوم، وعلى ذلك فيحتاج راكب الإبل بين الجحفة ومكة إلى خمس ليال.
وتبعد يلملم -وتسمى بالسعدية- عن مكة مرحلتين أي: نحو ثمانين كيلاً، وكذلك الضريبة.
وأما السيل فيبعد نحو ثلاث مراحل.
وعلى ذلك فأقرب المواقيت إلى مكة يبعد مرحلتين أي: يبعد نحواً من ثمانين كيلاً.
واعلم أن من لم يكن في طريقه ميقات فإن المشروع له أن يحرم من حذو أقرب المواقيت إلى هذا الطريق، ولذا قال عمر رضي الله عنه لأهل العراق: انظروا إلى حذوه.
ومن أتى من البحر ولم يكن في طريقه أرض يابسة فإنه يحرم من جدة، كالذين يأتون من السودان ونحوها، وجدة تبعد عن مكة مرحلتين، وليست ميقاتاً في المشهور المفتى به، لكنها للذين يأتون من تلك الجهة من أهل السواكن وذكر في المنتهى أنها ميقات.
وقد ذكر بعض الأحناف وهذا فيه قوة: أن من أتى إلى جدة ليمكث فيها أياماً لعمل ونحوه فإن له أن يحرم منها، لأنه مر من ميقات، كالذي يمر من ميقات ذي الحليفة وهو يريد جدة يمكث فيها أياماً لعمل أو تجارة أو غير ذلك، ثم يريد السفر من جدة إلى مكة بعد أن يمكث فيها أياماً، فالذي يظهر أن هذا له أن يحرم من جدة؛ لأنه مريد لها عند مروره بالميقات؛ ولأن بقاءه محرماً لا يخلو من مشقة.
قوله: (ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ)، يعني: من كانت قريته أو موضع سكنه دون هذه المواقيت، فمن حيث أنشأ.
كأن يسكن قرية تبعد عن مكة عشرين كيلاً، فهذا يحرم من هذا الموضع، ولو كان في الأصل ليس من أهلها لكنه أتى إليها ثم بدا له أن يعتمر فمن حيث أنشأ، فلو أن مدنياً مكث في موضع دون ذي الحليفة ثم نوى منه أن يعتمر ولم يكن قبل ذلك مريداً للحج والعمرة لكنه أنشأ هذه النية هناك فإنه يحرم من هذا الموضع.
وقوله: (حتى أهل مكة من مكة)، هذا في الحج، وأما في العمرة فليست كل مكة تصلح ميقاتاً في العمرة، بل الذي يصلح منها للمعتمر شرعاً هو الحل، فلا بد أن يذهب إلى الحل ليعتمر منه، وأما الحاج فإنه ينشئ نسكه من مكة حلها أو حرمها.
هذا رجل من أهل مكة نوى أن يحج البيت من شقته أو من بيته وهو داخل الحرم فلا بأس بذلك ولا حرج.
أما العمرة فلا بد أن يخرج إلى التنعيم أو غيره من الحل، وذلك لأن العمرة ليس فيها إلا الحرم فناسب أن يخرج إلى الحل ليعتمر فيجمع بين حل وحرم؛ ولأن العمرة هي الزيارة فناسب أن يأتي من الحل ليزور البيت في الحرم، ويدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين: (أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يعمر عائشة من الت