أمنزلا أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدّمه ولا نتأخّر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: «بل هو الرأي والحرب والمكيدة» ، قال: يا رسول الله! فإنّ هذا ليس بمنزل، امض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فنعسكر فيه، ثم نغوّر ما وراءه من الابار، ثم نبني عليه حوضا، فنملأه ماء، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد أشرت بالرأي» ، ثم أمر بإنفاذه، فلم يجئ نصف الليل حتّى تحوّلوا كما رأى الحباب، وامتلكوا مواقع الماء «1» .
وقضى المسلمون ليلا هادئ الأنفاس منير الافاق، غمرت الثقة قلوبهم وأخذوا من الراحة قسطهم، وتساقط عليهم مطر خفيف رطّب حولهم الجو وجعل نسائم الصباح تهب عليهم فتنعش صدورهم وتجدد أملهم، وكان الرمل تحت أقدامهم دهسا فتلبد وتماسك، وجعل حركتهم عليه ميسّرة.
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (11) [الأنفال] .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتفقّد الرجال، وينظّم الصفوف، ويسدي النصائح، ويذكّر بالله والدار الاخرة. ثم يعود إلى عريش هيّئ له، فيستغرق في الدعاء الخاشع، ويستغيث بأمداد الرحمن.
ووقف أبو بكر إلى جوار الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو يكثر الابتهال والتضرّع، ويقول فيما يدعو به: «اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعدها في الأرض» ، وجعل يهتف بربه عز وجلّ ويقول: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم نصرك!» ويرفع يديه إلى السماء حتى سقط رداؤه عن منكبيه.
وجعل أبو بكر يلتزمه من وراءه، ويسوّي عليه رداءه ويقول- مشفقا عليه من كثرة الابتهال-: يا رسول الله! بعض مناشدتك ربّك، فإنّه سينجز لك ما وعدك «2» .