فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة. فقلت: بأبي أنت وأمي، فخذ مفاتيح خزائن الدنيا وتخلّد فيها، ثم الجنة. قال: لا والله أبا مويهبة، قد اخترت لقاء ربي والجنة. ثم استغفر لأهل البقيع ثم انصرف فابتدأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم وجعه الذي قبض فيه» (?) .

وكان أول وجعه صلّى الله عليه وسلم صداعا شديدا يجده في رأسه، فقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنه صلّى الله عليه وسلم لما رجع من البقيع استقبلته وهي تقول: وارأساه، فقال لها صلّى الله عليه وسلم: «بل أنا والله يا عائشة وارأساه» (?) . ثم ثقل عليه الوجع فكان حمّى شديدة تنتابه، وكان بدء ذلك في أواخر صفر من السنة الحادية عشرة للهجرة وكانت عائشة ترقيه صلّى الله عليه وسلم خلال ذلك بمعوذات من القرآن.

روى البخاري ومسلم عن عروة أن عائشة رضي الله عنها أخبرته أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات ومسح عنه بيده، فلما اشتكى وجعه الذي توفي فيه، طفقت أنفث على نفسه بالمعوذات التي كان ينفث وأمسح بيد النبي صلّى الله عليه وسلم عنه.

وشعرت نساؤه صلّى الله عليه وسلم برغبته في أن يمرّض في بيت عائشة رضي الله عنها، لما يعلمن من محبته لها وارتياحه إليها، فأذنّ له في ذلك، فخرج إلى بيتها من عند ميمونة يتوكأ على الفضل بن العباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما.

وفي بيت عائشة رضي الله عنها اشتد به وجعه، وكان قد شعر بقلق أصحابه وحزنهم عليه، فقال: «أهريقوا عليّ من سبع قرب لم تحلل أو كيتهن لعلّي أعهد إلى الناس (أي أخرج إليهم لأكلمهم) » قالت عائشة رضي الله عنها: فأجلسناه في مخضب (ما يشبه الإجّانة يغسل فيها الثياب) ثم طفقنا نصب عليه من تلك القرب حتى طفق يشير إلينا بيده أن قد فعلتنّ. ثم خرج إلى الناس فصلى بهم وخطبهم (?) ، خرج صلّى الله عليه وسلم عاصبا رأسه، فجلس على المنبر، ثم كان أول ما تكلم به أن صلى على أصحاب أحد واستغفر لهم ثم قال:

«عبد خيره الله بين أن يؤتيه زهرة الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عنده» فبكى أبو بكر رضي الله عنه (إذ علم ما يقصده النبي صلّى الله عليه وسلم) وناداه قائلا: فديناك بآبائنا وأمهاتنا. فقال صلّى الله عليه وسلم:

«على رسلك يا أبا بكر، أيها الناس إن أمن الناس عليّ في ماله وصحبته أبو بكر، ولو كنت

طور بواسطة نورين ميديا © 2015