قوامه وحياته، فالحيوانات أعقل وأفهم من هؤلاء الذين هم كالأنعام، بل هم أضل ...
والصواب: أن هاهنا قسمًا ثالثًا - غير ما ذكره السائل: وهو أن هذا المقدور قدر بأسباب، ومن أسبابه: الدعاء، فلم يقدر مجردًا عن سببه، ولكن قدر بسببه فمتى أتى العبد بالسبب وقع المقدور، ومتى لم يأت بالسبب انتفى المقدور، وهذا كما قدر الشبع والري بالأكل والشرب، وقدر الولد بالوطء، وقدر حصول الزرع بالبذر، وقدر خروج نفس الحيوان بذبحه، وكذلك قدر دخول الجنة بالأعمال، ودخول النار بالأعمال، وهذا القسم هو الحق، وهذا الذي حُرِمَه السائل ولم يوفق له، وحينئذ فالدعاء من أقوى الأسباب، فإذا قدر وقوع المدعو به بالدعاء لم يصح أن يقال: لا فائدة في الدعاء، كما لا يقال: لا فائدة في الأكل والشرب وجميع الحركات والأعمال، وليس شيء من الأسباب أنفع من الدعاء، ولا أبلغ في حصول المطلوب.
ولما كان الصحابة رضي اللَّه عنهم أعلم الأمة باللَّه ورسوله، وأفقههم في دينه، كانوا أقوم بهذا السبب وشروطه وآدابه من غيرهم، وكان عمر رضي اللَّه عنه يستنصر به على عدوه، وكان أعظم جنده، وكان يقول للصحابة: «لستم تنصرون بكثرة، ولكن تنصرون من السماء» وكان يقول: «إني لا أحمل هَمَّ الإجابة، ولكن أحمل هَمَّ الدعاء، فإن ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه».
وأخذ الشاعر هذا المعنى فنظمه، فقال:
لو لم تُرد نيلَ ما أرجو وأطلبه ... من جود كفيك ما علَّمتني الطلبا
بل الفقيه كل الفقه الذي يرد القدر بالقدر، ويدفع القدر بالقدر، ويعارض القدر بالقدر، بل لا يمكّن الإنسان أن يعيش إلا بذلك.
فإن الجوع والعطش والبرد، وأنواع المخاوف والمحاذير هما من القدر، والخلق كلهم ساعون في دفع هذا القدر بالقدر، وهكذا من وفقه اللَّه وألهمه رشده يدفع قدر العقوبة الأخروية بقدر التوبة والإيمان والأعمال الصالحة، فهذا هو القدر المخوف في الدنيا وما يضاده، فرب الدارين واحد، وحكمته واحدة، لا تناقض بعضها بعضًا، ولا يبطل بعضها بعضًا، فهذه المسألة من أشرف المسائل لمن عرف قدرها، ورعاها حق رعايتها، واللَّه المستعان (?). انتهى.