بليغ ولا راوية محيط! وفينا الأخلاق والغيرة على الأعراض. وفينا علماء التاريخ الواصلون إلى موارده المحقّقون لأخباره، وأولئك لا يعرفون منه إلا ما حفظوه من دسّ المستشرقين. ومن المستشرقين يهود، فمن هنا جاءتهم تلك الفكرة الآثمة التي تجعل الساميين كلهم عرباً، ليكون اليهود من العرب، فلا يبقى معنى لحربهم وقتالهم والحرص على طردهم من فلسطين.

* * *

وأنا أعذر هؤلاء الأساتذة، فهم شباب، ما كنا نأمل ونحن في مثل أسنانهم، ونحن يومئذ أعرَف بالتاريخ منهم اليوم، أن يكون الواحد منا مدرّساً في الصف الأول الثانوي.

شباب رأوا أنفسهم أساتذة في الجامعة (وأستاذيّة الجامعة في بلاد الناس شيء عظيم)، فاغتروا كما اغترّ الجحش الذي زعموا أنه لبس مرة جلدة الأسد فظن نفسه أسداً ... والقصة معروفة. وانطلقوا يصوّرون للطلاب الماضي لا كما كان، بل كما يتمنى الخواجة ميخائيل ويهود المستشرقين أن يكون قد كان! وأرادوا أن يلفّوا هذا السمّ بغشاء من السكّر وأن يجدوا لهذه الخيالات سنداً من النقل، فنظروا نظرة عَجْلى في كتب التاريخ العربي، وذيّلوا كتبهم بأرقام صفحاتها ليدلّوا على أنهم أخذوا منها. يحسبون أنه يكفي أن يعرف المرء كيف يقرأ ما كتب الطبري ليصير -بقدرة الله- مؤرِّخاً، لا يدرون أن هذه الكتب هي مصادر التاريخ لا التاريخ، هي المواد الأولية، ولا بد من تنقيتها أولاً وجمع النقيّ منها، ثم إدخاله المصنع.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015