بقي شيء واحد أحب أن أقوله قبل أن أختم هذا الحديث: إنه لا يكفي في القانون المدني أن تكون أحكامه موافقة للشرع، بل أن يكون مستنبَطاً من الفقه الإسلامي.
والفقه الإسلامي -في الواقع- غنيٌّ غِنىً لا يحتاج معه إلى الأخذ من غيره. إنه أكثر كتباً وبحوثاً وأعمق نظريات، وأصحُّ قواعدَ وأكثرُ تفريعات من القانون الفرنسي. وهذا شيء مشاهَد يعرفه القضاة الذين يرجعون إلى كتبنا وإلى الكتب الفرنسية. والعثمانيون وضعوا «المَجَلّة» فكانت قانوناً مدنياً ممتازاً، وبقينا نحكم بها في الشام إلى أيام حسني الزعيم، ولا تزال الأردن تحكم بها. مع أنها وُضعت في القرن الماضي واقتُصر فيها على مذهب واحد، فكيف لو وضعنا مثلها الآن ولم نتقيد فيها بمذهب واحد ولا بالمذاهب الأربعة، بل بالدليل الشرعي، فإن اتفقت المذاهب الأربعة على حكم من الأحكام الاجتهادية ولم يَرِد في هذا الحكم دليل مُلزِم من كتاب أو سنّة، ورأينا العدل في غير ما قالوا به فلا مانع من أن نخالفهم.
تقولون: ما دام الحكم لا يخالف الدين، فما الفرق بين أن نأخذه من الفقه الإسلامي أو من الحقوق الفرنسية؟
الفرق أنها لما كانت عندنا «المجلة»، مجلة الأحكام العدلية، وكانت هي قانوننا المدني، كنا نرجع فيما لا نصّ عليه فيها إلى كتب الفقه: إلى الحاشية والتنقيح والفتاوى الهندية وأمثالها، فلما جاءنا حسني الزعيم -عليه من الله ما يستحق- بالقانون المدني الفرنسي صار مرجعنا دالّوز وجاستون وشُرّاح فرنسا ... هؤلاء صاروا هم أئمتنا!