وَهَذَا أَمْرٌ يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَضْبِطَ نَفْسَهُ عَنْ أَنْ يَسْتَفِزَّهَا، وَيَمْنَعَهَا مِنْ تَصْدِيقِ الْمَدْحِ لَهَا، فَإِنَّ لِلنَّفْسِ مَيْلًا لِحُبِّ الثَّنَاءِ وَسَمَاعِ الْمَدْحِ، فَإِذَا سَامَحَ نَفْسَهُ فِي مَدْحِ الصَّبْوَةِ، وَتَابَعَهَا عَلَى هَذِهِ الشَّهْوَةِ، تَشَاغَلَ بِهَا عَنْ الْفَضَائِلِ الْمَمْدُوحَةِ، وَلَهَا بِهَا عَنْ الْمَحَاسِنِ الْمَمْنُوحَةِ، فَصَارَ الظَّاهِرُ مِنْ مَدْحِهِ كَذِبًا، وَالْبَاطِنُ مِنْ ذَمِّهِ صِدْقًا، وَعِنْدَ تَقَابُلِهِمَا يَكُونُ الصِّدْقُ أَلْزَمَ الأمْرَيْنِ. وَهَذِهِ خُدْعَةٌ لاَ يَرْتَضِيهَا عَاقِلٌ وَلاَ يَنْخَدِعُ بِهَا مُمَيِّزٌ. وَلْيَعْلَمْ أَنَّ الْمُتَقَرِّبَ بِالْمَدْحِ يُسْرِفُ مَعَ الْقَبُولِ وَيَكُفُّ مَعَ الإبَاءِ، فَلاَ يَغْلِبُهُ حُسْنُ الظَّنِّ عَلَى تَصْدِيقِ مَدْحٍ هُوَ أَعْرَفُ بِحَقِيقَتِهِ وَلْتَكُنْ تُهْمَةُ الْمَادِحِ أَغْلَبَ عَلَيْهِ. فَقَلَّ مَدْحٌ كَانَ جَمِيعُهُ صِدْقًا، وَقَلَّ ثَنَاءٌ كَانَ لَهُ حَقًّا. وَلِذَلِكَ كَرِهَ أَهْلُ الْفَضْلِ أَنْ يُطْلِقُوا أَلْسِنَتَهُمْ بِالثَّنَاءِ وَالْمَدْحِ تَحَرُّزًا مِنْ التَّجَاوُزِ فِيهِ، وَتَنْزِيهًا عَنْ التَّمَلُّقِ بِهِ.

غضب عمر رضي الله عنه على مدح المسلم:

وأخرجه ابن أبي شيبة والبخاري في الأدب عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: كنا قعوداً عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فدخل عليه رجل فسلَّم عليه، فأثنى عليه رجل من القوم في وجهه، فقال عمر: عَقَرتَ الرجل عقَرك الله، تثني عليه في وجهه في دينه، كذا في الكنز. وعند ابن أبي الدنيا في الصمت عن الحسن أن رجلاً أثنى على عمر رضي الله عنه فقال: تهلكني وتهلك نفسك كذا في الكنز.

قصة عمر رضي الله عنه مع الجارود:

وأخرج ابن أبي الدنيا في الصمت عن الحسن قال: كان عمر رضي الله عنه قاعداً ومعه الدِّرَّة والناس حوله إذا أقبل الجارود رضي الله عنه، فقال رجل: هذا سيد ربيعة، فسمعه عمر ومن حوله وسمعه الجارود، فلما دنا منه خَفَقَه بالدِّرَّة، فقال: مالي ولك يا أمير المؤمنين؟ فقال: مالي ولك؟ أمَا لقد سمعتها، قال: سمعتها فَمْه؟ قال: خشيت أن يخالط قلبك منها شيء فأحببت أن أطأطىء منك. كذا في الكنز.

عمل ابن عمر رضي الله عنهما وقوله في هذا الأمر:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015