ثم يبين ربنا سبحانه وتعالى أن الذكر له نوعان: خفي وجهري , فإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم , إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي , فأيهما أرفع درجة وأفضل حالاً؟ هل الذي يذكر الله في نفسه فيذكره الله في نفسه , أم الذي يذكر الله في ملإ فيذكره الله في ملإ خير منهم؟ قد يقول المرء بل الذي يذكره في ملإ لأن الله تعالى سيشهر أمره وسيرفع ذكره في السماء, فيذكره في ملإ خير منهم, نعم ولكن أن يذكر الله تعالى العبد في نفسه هذا أسمى بكثير لأن هذا يعني أن سراً بين العبد وربه لا يطلع عليه أحد قد نشأ وهذا أسمى من أن يشتهر أمر العبد بصلاحه وتقواه عند أهل السماء.

ومن هنا كان الذكر الخفي أفضل من الذكر الجهري والأدلة على ذلك كثيرة؛ ومنها الحديث الآتي:

(حديث سعد ابن أبي وقاص في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله يحب العبد التقي النقي.

بل الآية الكريمة صريحة في تبيان أن الذكر الخفي هو الأصل, وهي قوله تعالى {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ} [سورة الأعراف /205]

(حديث أبي موسى في الصحيحين) قال كنا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزاةٍ فجعلنا لا نصعد شرفاً ولا نعلو شرفاً ولا نهبطُ في وادٍ إلا رفعنا صوتنا بالتكبير فدنا منا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً إنكم تدعون سميعاً بصيرا، ثم قال: يا عبد الله بن قيس ألا أعلمك كلمةً هي من كنوز الجنة: لا حول ولا قوة إلا بالله.

(فنهاهم عن رفع الأصوات بالذكر،

والذكر في أصله عمل قلبي فهو ضد النسيان , كما بينت الآية: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ} [سورة الأعراف /205]

فالذكر يتنافى مع الغفلة.

وتمام الذكر القلبي التلفظ اللساني على ألا يعلى الصوت فيه، وذلك لفوائد وحكم منها ما يلي:

أولاً: الذكر الخفي أقرب إلى الخشوع , فمن أسمع نفسه كان أخشع.

ثانياً: الذكر القلبي أقرب إلى الإخلاص , فالذي يرفع صوته بالذكر لا يأمن على نفسه أن يرائي , وأما إن أسر بالذكر فإنه أقرب إلى الإخلاص, وإن كان في الحالين معرضاً لوجود شرك خفي.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015