فلو نظرنا إلى العشرة المبشرين بالجنة لوجدنا أن أكثرهم كانوا من أصحاب رؤوس الأموال الطائلة ومن التجار، فهذا أبو بكر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف لو نظرنا إليهم بمنظار العصر لقيل عنهم أنهم من أصحاب الملايين، فهل تخلف أحدهم عن غزوة مع رسول الله؟ هل ألهاهم التكاثر فمنعوا الإنفاق في سبيل الله؟ كلا والله ثم كلا، هل سعوا للرئاسة والتفاخر وتزكية النفس وطلب المدح؟ لا والله ما فعلوا، بل هم أبعد الأمة عن هذه الأمور، وكانوا يجودون بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ولنصرة دينه ولنصرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن بشر بن الحارث، قال: قيل لسفيان الثوري: أيكون الرجل زاهداً ويكون له المال؟ قال: نعم، إن كان إذا ابتلى صبر وإذا أعطى شكر.

[*] قال يونس بن ميسرة: " ليس الزهادة فى الدنيا بتحريم الحلال، ولا إضاعة المال، ولكن الزهادة فى الدنيا أن تكون بما فى يد الله أوثق منك بما فى يدك، وأن تكون حالك فى المصيبة وحالك إذا لم تصب بها سواء وأن يكون مادحكم وذامّكم فى الحق سواء ".

ففسر الزهد فى الدنيا بثلاثة أشياء كلها من أعمال القلوب لامن أعمال الجوارح، ولهذا كان أبو سليمان يقول: لاتشهد لأحد بالزهد.

أحدها: أن يكون العبد بما فى يد الله أوثق منه بما فى يد نفسه، وهذا ينشأ من صحة اليقين وقوته، قيل لأبى حازم الزاهد: ما مالك؟ قال: " مالان لا أخشى معهما الفقر: الثقة بالله، واليأس مما فى أيدى الناس ".

وقيل له: أما تخاف الفقر؟ فقل: " أنا أخاف الفقر ومولاى له ما فى السموات، وما فى الأرض، وما بينهما، وما تحت الثرى؟ ".

[*] قال الفضيل رحمه الله: أصل الزهد: الرضى عن الله عزّ وجلّ.

(وقال: القنوع هو الزاهد، وهو الغنى، فمن حقق اليقين، وثق بالله فى أموره كلها، ورضى بتدبيره له، وانقطع عن التعلق بالمخلوقين رجاءاً وخوفاً، ووضعه ذلك من طلب الدنيا بالأسباب المكروهة، ومن كان كذلك كان زاهداً حقاً، وكان من أغنى الناس، وإن لم يكن له شىء من الدنيا، كما قال عمار - رضي الله عنه -: كفى بالموت واعظاً، وكفى باليقين غنى، وكفى بالعبادة شغلاً ".

طور بواسطة نورين ميديا © 2015