وبهذه المقايسة تعلم أن الرب رب والعبد عبد ويتبين لك حقيقة النفس وصفاتها وعظمة جلال الربوبية وتفرد الرب بالكمال والإفضال وأن كل نعمة منه فضل وكل نقمة منه عدل وأنت قبل هذه المقايسة جاهل بحقيقة نفسك وبربوبية فاطرها وخالقها فإذا قايست ظهر لك أنها منبع كل شر وأساس كل نقص وأن حدها الجاهلة الظالمة وأنه لولا فضل الله ورحمته لتزكيته لها ما زكت أبدا ولولا هداه ما اهتدت ولولا إرشاده وتوقفه لما كان لها وصول إلى خير البتة وأن حصول ذلك لها من بارئها وفاطرها وتوقفه عليه كتوقف وجودها على إيجاده فكما أنها ليس لها

من ذاتها كمال الوجود فليس لها من ذاتها إلا العدم عدم الذات وعدم الكمال فهناك تقول حقا "أبوء لك بنعمتك على وأبوء بذنبي".

ثم تقايس بين الحسنات والسيئات فتعلم بهذه المقايسة أيهما أكثر وأرجح قدرا وصفة.

وهذه المقايسة الثانية مقايسة بين أفعالك وما منك خاصة.

قال: "وهذه المقايسة تشق على من ليس له ثلاثة أشياء نور الحكمة وسوء الظن بالنفس وتمييز النعمة من الفتنة".

يعني أن هذه المقايسة والمحاسبة تتوقف على نور الحكمة وهو النور الذي نور الله به قلوب أتباع الرسل وهو نور الحكمة فبقدره ترى التفاوت وتتمكن من المحاسبة.

ونور الحكمة ههنا: هو العلم الذي يميز به العبد بين الحق والباطل والهدى والضلال والضار والنافع والكامل والناقص والخير والشر ويبصر به مراتب الأعمال راجحها ومرجوحها ومقبولها ومردودها وكلما كان حظه من هذا النور أقوى كان حظه من المحاسبة أكمل وأتم.

وأما سوء الظن بالنفس: فإنما احتاج إليه لأن حسن الظن بالنفس يمنع من كمال التفتيش ويلبس عليه فيرى المساويء محاسن والعيوب كمالا فإن المحب يرى مساويء محبوبه وعيوبه كذلك.

فعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا

ولا يسيء الظن بنفسه إلا من عرفها ومن أحسن ظنه بنفسه فهو من أجهل الناس بنفسه.

وأما تمييز النعمة من الفتنة فليفرق بين النعمة التي يرى بها الإحسان واللطف ويعان بها على تحصيل سعادته الأبدية وبين النعمة التي يرى بها الاستدراج فكم من مستدرج بالنعم وهو لا يشعر مفتون بثناء الجهال عليه مغرور بقضاء الله حوائجه وستره عليه وأكثر الخلق عندهم أن هذه الثلاثة علامة السعادة والنجاح ذلك مبلغهم من العلم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015