قال: إنما أعني من دين العباد، قال: إن ربي لم يأمرني بهذا، إنما أمرني أن أصدق وعده وأطيع أمره، فقال جل وعز (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ * مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنّ اللّهَ هُوَ الرّزّاقُ ذُو الْقُوّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات 56: 58]. فقال له: هذه ألف دينار خذها فأنفقها على عيالك وتقو بها على عبادتك، فقال: سبحان الله أنا أدلك على طريق النجاة، وأنت تكافئني بمثل هذا؟ سلمك الله ووفقك. ثم صمت فلم يكلمنا، فخرجنا من عنده، فلما صرنا على الباب قال هارون: إذا دللتني على رجل فدلني على مثل هذا، هذا سيد المسلمين، فدخلت عليه امرأة من نسائه فقالت: ياهذا قد ترى ما نحن فيه من ضيق الحال، فلو قبلت هذا المال فتفرجنا به؟ فقال لها: مثلي ومثلكم كمثل قوم كان لهم بعير يأكلون من كسبه، فلما كبر نحروه فأكلوا لحمه. فلما سمع هارون هذا الكلام قال: ندخل فعسى أن يقبل المال، فلما علم الفضيل خرج فجلس في السطح على باب الغرفة فجاء هارون فجلس إلى جنبه فجعل يكلمه فلا يجيبه، فيبنا نحن كذلك إذ خرجت جارية سوداء فقالت: يا هذا قد آذيت الشيخ منذ الليلة، فانصرف رحمك الله، فانصرفنا.
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يحيى بن معاذ قال: الدنيا أمير من طلبها، وخادم من تركها، الدنيا طالبة ومطلوبة، فمن طلبها رفضته ومن رفضها طلبته، الدنيا قنطرة الآخرة فاعبروها ولا تعمروها، ليس من العقل بنيان القصور على الجسور، الدنيا عروس وطالبها ماشطتها، وبالزهد ينتف شعرها ويسود وجهها ويمزق ثيابها. ومن طلق الدنيا فالآخرة زوجته. فالدنيا مطلقة الأكياس لا تنقضي عدتها أبداً، فخل الدنيا ولا تذكرها، واذكر الآخرة ولا تنسها، وخذ من الدنيا ما يبلغك الآخرة، ولا تأخذ من الدنيا ما يمنعك الآخرة.