إنا أوحينا إليك القرآن ثم أورثنا من بعدك، أى: حكمنا بتوريثه. أو قال: أورثناه، وهو يريد: نورثه؛ لما عليه أخبار الله. (الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا)؛ وهم أمّته من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
على {أَوْحَيْنَا}، و ((ثُمَّ)) يقتضي الترَّخيَ في الزمانِ، وأن يقال: ثم نورثُه بعدَك المُصْطَفيْن، فما معنى مجيءَ {أَوْرَثْنَا} ماضيًا؟
وأجاب بوجهَيْن:
أحدُهما: أنّ المرادَ: ثمَّ حكَمْنا بَعْدَك بتوريثه، أو وضَعَ الماضي موضِعَ المُستقبل، تنزيلاً لما هو الكائنُ بمنزلةِ الكائن.
وثانيهما: أنّ هذه الآيةَ مُتَّصلةٌ بما سبقَ من قوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} وهو المرادُ من قوله: إنه قَدَّم إرسالَه في كلِّ أمة رسولاً، أي: قَدَّم اللهُ على إرسالهِ صلوات الله عليه إرسالَ الرسلِ في كلِّ أمةٍ، وعَقَّبه بما يُنبئُ أن تلك الأُممَ تفرَّقت حزبَيْن: حِزْبٌ كَذَّبوا الرسلَ وما أُنْزِلَ معهم، وإليه الإشارةُ بقولِه: {فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ}، وحِزْبٌ صَدَّقوهم وآمنوا وتلَوْا كتابَ وعَمِلوا بمُقتضاه وإليه الإشارةُ بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا}، وعلى هذا الوجه يكون {أَوْرَثْنَا} ماضيًا يَجْري على ظاهره، والذي يدلّ على هذا التقسيمِ قولُ المصنِّف: ((فأنثى على التالينَ لكُتبه، العاملينَ بشرائعِه، من بين المُكذِّبين بها من سائرِ الأمم)).
ولما فرغَ من ذلك جاءَ بما يختصُّ برسولِ الله صلى الله عليه وسلم من قوله: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} الآية مستطرَدًا معترضًا، ثم أخبر بعد ذلك إيراثَه هذا الكتاب الكريم، بهذه الآية بعد إعطاء تلك الأمم الزُّبُرَ والكتابَ المنير؛ فيكونُ ثمَّ للتراخي في الإخبار، وإليه الإشارةُ بقوله: ((ثم قال: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} أي: مِنْ بَعدِ أولئك المذكورين))، ويمكنُ أن يُحْمَل ((ثمَّ)) على التراخي في المرتبةِ أيضًا إيذانًا بفَضْلِ هذا الكتاب على سائرِ الكتبِ، وفضل هذه الأمة على سائر الأمم.