حيث أخرج الجواهر والأعراض من العدم إلى الوجود، ثم أوقع التأليف مشحونا بضروب الحكم التي تحار الفطن فيها، من غير حذو على مثال واقتداء بمؤلف. ولكن اختراعا وإبداعا من عند قادر جلت قدرته ودقت حكمته. وأما الثانية فقد تقدمت نظيرتها وعادت لها كالمثال المحتذى عليه. وليس فيها إلا تأليف الأجزاء الموجودة الباقية وتركيبها، وردها إلى ما كانت عليه مجموعة بعد التفكيك والتفريق. وقوله تعالى: (وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) دليل على هذا المعنى، وكذلك قوله تعالى: (وَهُوَ أَهْوَنُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولأنه يبطل صدريتها، فالأولى أن يقال: (لا يَذْكُرُ) عطفٌ على (يَقُولُ) مُقدراً بعد الهمزة لدلالة الأول عليه، فيرتفع الإشكال.
وقلتُ: قد سبق مراراً وأطواراً أن هذه الهمزة مقحمةٌ لتأكيد الإنكار السابق، وأوردنا فيه كلاماً من جانب أبي إسحاق الزجاج. وقال القاضي: وتوسيطُ همزةِ الإنكارِ بينه وبين العاطف مع أن الأصل أن يتقدمها، لا يدل على أن المنكر بالذات هو المعطوفُ، وأن المعطوف عليه إنما نشأ منه؛ لأنه لو تذكر وتأمل فيما أنكر ما نشأ ذلك منه.
قوله: ((وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) دليل على هذا المعنى)، قال صاحب "الانتصاف": إعادة المعدوم جائزةٌ عقلاً واقعةٌ نقلاً، ووافقت المعتزلةُ لكن زعموا أن المعدوم له ذاتٌ ثابتةٌ في العدم، وتُسمى شيئاً، وليس عدماً صرفاً قبل الوجود، فكأنهم لولا ذلك لقالوا بقول الفلاسفة خذلهم الله في نفي إعادة المعدوم، والمطابق للآية معتقدنا، إذ النشأة الأولى لم يسبقها وجودٌ، ولا كان المنشأ شيئاً بخلاف النشأة الثانية، فإنه سبق لها وجود، وكان شيئاً، فظهر الفرق بين النشأتين، والمعتزلي إن قال: إن الأجسام يُعدمها الله ثم يوجدها وهو حقٌّ، لكن لا يتمُّ عندهم فرقٌ بين النشأتين، فإن المعدوم فيها كان شياً، وإن قالوا: لا تنعدمُ