فإن قلت: ما أذن الله فيه يجب أن يكون حسناً، فمن أي: وجه حسن هذا الكيد؟ وما هو إلا بهتان، وتسريق لمن لم يسرق، وتكذيب لمن لم يكذب، وهو قوله: (إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) [يوسف: 70]، (فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ) [يوسف: 74]؟ قلت: هو في صورة البهتان، وليس ببهتانٍ في الحقيقة، لأنّ قوله (إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) تورية عما جرى مجرى السرقة من فعلهم بيوسف.

وقيل: كان ذلك القول من المؤذن لا من يوسف، وقوله (إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ) فرض لانتفاء براءتهم. وفرض التكذيب لا يكون تكذيباً، على أنه لو صرّح لهم بالتكذيب كما صرّح لهم بالتسريق. لكان له وجه، لأنهم كانوا كاذبين في قولهم: (وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ) [يوسف: 17].

هذا وحكم هذا الكيد حكم الحيل الشرعية التي يتوصل بها إلى مصالح ومنافع دينية، كقوله تعالى لأيوب عليه السلام: (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً) [ص: 44] ليتخلص من جلدها ولا يحنث، وكقول إبراهيم عليه السلام: "هي أختي"، لتسلم من يد الكافر. وما الشرائع كلها إلا مصالح وطرق إلى التخلص من الوقوع في المفاسد، وقد علم الله تعالى في هذه الحيلة التي لقنها يوسف مصالح عظيمة فجعلها سلماً وذريعة إليها، فكانت حسنة جميلة وانزاحت عنها وجوه القبح لما ذكرنا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

متضمن لأسرار وحكم لا يصل إلى كنهها كل ذي علم، فإن أصحاب العلم وأربابه تتفاوت درجاتهم؛ فمن عالم لا ينظر إلا إلى ظاهر الحال فينكر، ومن عالم يعلم السر والحكمة فيه كيوسف والخضر فيمضيه، فجاء قوله: (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) تذييلاً للكلام السابق، فعلى هذا: يحمل "الكل" في قوله: (كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) على الاستغراقية دون المجموعية، ويحمل "العليم" على غير الله عز وجل قطعاً.

قوله: (تورية)، وهي أن يطلق لفظ له معنيان؛ قريب وبعيد، ويراد البعيد منهما، فقوله:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015