قال ذلك اليهودُ حين سَمِعوا قولَ اللَّه تعالى: (مَّن ذَا الذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قرضاً حسناً) [البقرة: 245]، فلا يَخْلو: إمّا أن يَقولُوه عن اعتقادٍ لذلك، أو عن استهزاءٍ بالقرآن، وأيّهما كان فالكلمةُ عظيمةٌ لا تصدُرُ إلا عن متمرِّدين في كُفرِهم. ومعنى سَماعِ اللَّه له: أنه لم يَخْفَ عليه، وأنّه أعَدّ له كِفاءَه مِنَ العقاب (سَنَكْتُبُ ما قالُوا): في صحائفِ الحَفَظة. أو سنَحفَظُه ونثبته في عِلْمِنا لا نَنْساه كما يُثْبَتُ المكتوب. فإنْ قلتَ: كيف قال: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ) ثم قال: (سَنَكْتُبُ)؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وأيهما كان)، روي مرفوعاً ومنصوباً، فالرفع على أن "كان" تامة، والنصب على أنها ناقصة، والاسم مضمر فيها، كقولهم: أياً كان وأياً ما كان، أي: ذلك أو المذكور.
قوله: (ومعنى سماع الله) إلى آخره يشير إلى أن قوله: (سَمِعَ اللَّهُ) كناية تلويحية عن الوعيد؛ لأن السماع لازم العلم بالمسموع، وهو لازم للوعيد في هذا المقام، فقوله: "وأنه أعد له كفاءه": عطف تفسيري على قوله: "أنه لم يخف".
قوله: (كيف قال: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ)؟ ) وجه السؤال: أن قوله: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ) ماض فلا يطابقه قوله: (سَنَكْتُبُ) لأنه مستقبل، فلو قيل: "كتبنا"، لطابقه؟ وأجاب: أن المراد توكيد الكلام فابتدأ بالإخبار عن كونه ووجوده، وأكده بالقسمية، وثنى بالإخبار عن تحققه وثبوته فيما يستقبل، وأكده بالسين، وكلتا العبارتين معبرتان عن الوعيد، ألا ترى كيف قال أولاً: "وأنه أعد له كفاءه من العقاب"، وثانياً: " (سَنَكْتُبُ) على جهة الوعيد"، ثم لخص المعنيين بقوله: "لن يفوتنا أبداً إثباته وتدوينه"، أي: ماضياً ومستقبلاً! وإلى هذا المعنى ينظر قول من قال:
لها بين أحناء الضلوع مودة ... ستبقى لها ما ألفي الدهر باقيا
وإتيان السين في (سَنَكْتُبُ) للمبالغة؛ لأن سين الاستقبال لتأكيد الفعل في الإثبات، كما أن "لن" لتأكيده في النفي.
قال الخليل: "إن سيفعل" جواب "لن يفعل".