فلما جاء الإسلام، دين الطهارة والنظافة، دين المودة والإنسانية، وتعلمت منه المسلمة نقاء موضع البول والغائط، والتطهر للصلاة خمس مرات في اليوم والليلة، وطهارة الثوب والبدن والمكان، والغسل الواجب والمندوب، واستعمال المسك والطيب، وتعلم منه الرجل المسلم إكرام المرأة والوصية بها، والعطف عليها وحبها، وحفظ كرامتها وتقديرها كان لا بد من تغير النظرة، وتبدل المعاملة.
لقد كان أهل المدينة جيرانا لليهود، يعلمون أحوالهم، ويشاهدون سلوكهم ويقتدون بهم فيما يعجبهم، ويخالفونهم فيما لا يرضيهم، وجاءهم الإسلام فبرزت شخصيتهم، ونزل الدين بأصوله وفروعه، يرسم لهم حياتهم، وشاء الله أن يقوم أسيد بن حضير وعباد بن بشر، الصحابيان الجليلان، السابقان إلى الإسلام، شاء الله أن يقوما بسؤال النبي صلى الله عليه وسلم يقولان: يا رسول الله. لقد علمت ما يفعله اليهود مع الحائض من نسائهم، فبماذا يأمرنا ديننا في هذا الأمر؟ وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطلب إليهما التريث حتى يأتي أمر الله. ونزل قوله تعالى: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين} [البقرة: 222].
وعلم الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه ما ينبغي أن يكون، لكن الذين يسمعون بالآية كانوا أكثر من الذين يسمعون شرحها وتفسيرها، ففهمها بعض الأعراب على غير وجهها، وجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: يا رسول الله البرد شديد والثياب قليلة، فإن آثرناهن هلك سائر أهل البيت، وإن استأثرنا بها هلكت الحيض، فقال: إنما أمرتم أن تعتزلوا وطأهن، ولم تؤمروا بإخراجهن من البيوت، خالطوهن في البيوت، وجالسوهن في المجالس، وشاركوهن في الفراش وآكلوهن وشاربوهن، وافعلوا كل شيء إلا النكاح.
لقد كانت الآية -حقا- في حاجة إلى بيان الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان العرف والعادة الراسخة في حاجة إلى قوة لاجتثاثها، لقد كانت أمهات المؤمنين -حتى بعد نزول الآية وبعد بيانها وتفسيرها- إذا حاضت الواحدة منهن وهي في لحاف الرسول صلى الله عليه وسلم انسلت من اللحاف، فيناديها صلى الله عليه وسلم، ليعيدها إليه، ويروي أبو داود عن عائشة أنها قالت: "كنت إذا حضت نزلت عن المثال على الحصير [المثال فراش النبي صلى الله عليه وسلم وكان من جلد مدبوغ حشوه ليف يشبه المعروف في أيامنا المرتبة] فلم نقرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ندن منه حتى نطهر".
إن الأمر في حاجة إلى حملة شديدة، وقد قام بها صلى الله عليه وسلم خير قيام، لقد كان يأمر الحائض من أزواجه بل في فورة حيضتها أن تأتزر ثم يباشرها فوق إزارها، ولم تكن به شهوة جامحة، بل كان أقدر الناس على أن يملك إربه، ولكنه التشريع الحكيم والبلاغ المبين.
كان يؤتي بقطعة اللحم، فيناولها زوجه الحائض لتأكل منها قبله، فتعتذر في لطف وأدب، فيقسم عليها أن تأكل قبله، فتأخذها، فتعض منها عضة، ثم تناولها له، فيعض من المكان الذي عضت منه، ويدعو بالشراب فيأتيه، فيناوله لها فتعتذر، فيقسم عليها، فتشرب منه، ثم يأخذه فيضع فمه حيث وضعت فمها فيشرب.