قال الحافظ ابن حجر: وفي المسألة ثلاثة مذاهب أخرى، منها:
1 - جواز الاستدبار في البنيان فقط، وهو قول أبي يوسف.
2 - وتحريم الاستقبال والاستدبار للقبلة ولبيت المقدس، وهو محكي عن إبراهيم وابن سيرين عملا بحديث معقل الأسدي "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلتين ببول أو بغائط" رواه أبو داود وغيره، وضعفه الحافظ ابن حجر، ثم قال: وقد ادعى الخطابي الإجماع على عدم تحريم استقبال بيت المقدس لمن لا يستدبر في استقباله الكعبة قال: وفيه نظر لما ذكرناه عن إبراهيم وابن سيرين. اهـ.
3 - وقالت المذاهب غير المشهورة إن التحريم مختص بأهل المدينة ومن كان على سمتها، فأما من كانت قبلته في جهة المشرق أو المغرب فيجوز له الاستقبال والاستدبار مطلقا، لعموم قوله: "شرقوا أو غربوا" قاله أبو عوانة صاحب المزني. اهـ.
ولا يفوتني في هذا المقام أن أوضح المراد باستقبال القبلة واستدبارها هل هو عين الكعبة أو وجهتها؟ فأنقل ما ذكره العيني عن بعضهم أنه قال: البيت قبلة لمن في المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لسائر أهل الأرض. اهـ.
لكن ظاهر الحديث أن المقصود الجهة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أباح لهم قضاء الحاجة في جهة المشرق والمغرب، فيكون معناه أن لا قبلة ما بينهما، وقد روى الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما بين المشرق والمغرب قبلة" قاله بالنسبة لأهل المدينة، وقال ابن عمر: إذا جعلت المغرب عن يمينك، والمشرق عن يسارك، فما بينهما قبلة.
والرأي عندي -بعد هذا العرض الواضح لمذاهب العلماء- أن قصد استقبال القبلة أو استدبارها ببول أو غائط حرام، سواء كان بالصحراء أو بالمرحاض في جوف المدينة، وأما مع عدم القصد فليس حراما ولو كان في الصحراء، والسين والتاء في "استقبل" و"استدبر" للطلب، فطلب كونها قبل وجهه، أو طلب كونها خلف دبره هو المحرم، لما في ذلك من إهانة ما يجب تعظيمه، نعم الأولى عند عدم القصد اجتناب الاستقبال والاستدبار حيث أمكن وحيث خطر بالبال، كما أن الأولى لمن يبني مكانا لقضاء الحاجة أن يجعل وضعه في غير استقبال أو استدبار، خروجا من الخلاف، ورفعا لتوهم المتوهمين، وما يقال في القبلة يقال في المصحف الكريم، وفي القبر النبوي الشريف.
وأعتقد أن النهي عن استقبال القبلة بالبول والغائط قصد منه تعظيم القبلة وتقديسها في نفوس المسلمين، وصيانتها عن قصدها بالخبائث، وإلا فكيف نفهم استقبالها بالغائط، وهو ينزل من أعلى إلى أسفل، ولا يوصف بمواجهة ولا استدبار، ولا بيمين أو يسار.
ولا يقال: إننا نصونها عن استقبالها بالقبل والدبر، لأنه إن أريد مع الساتر فإننا نستقبل بهما الحجر الأسود في الطواف وليس علينا إلا الإزار، وإن أريد مع الكشف فإن من قال بالحرمة لم يمنع الاغتسال عريانا مستقبل القبلة، بل قال: إذا تجنب استقبال القبلة واستدبارها حال خروج البول والغائط، ثم أراد الاستقبال أو الاستدبار حال الاستنجاء جاز. قاله النووي في شرح مسلم،