أن يعقب هذا الإشفاق بالاعتماد على الله، والمضي فيما اعتزم عليه، وفي ذلك يقول ابن مسعود: "وما منا إلا تطير، ولكن الله يذهبه بالتوكل" وفي الحديث "إذا تطيرت فلا ترجع" وعند البيهقي "من عرض له من هذه الطيرة شيء فليقل: اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك" وعند أبي داود "إذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بالله".
أما الفأل الصالح والكلمة الصالحة الحسنة فلا شيء فيه، بل كان صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل الصالح، كما جاء في الحديث، إذ الفأل من طريق حسن الظن بالله، وقد جعل الله في فطر الناس محبة الكلمة الطيبة والأنس بها، كما جعل فيهم الارتياح لمنظر الماء الصافي، وإن كان لا يملكه ولا يشربه، ويشترط في إباحة الفأل ألا يعمد إليه ولا يقصده، فإن فعل ذلك كان مذموما كالطيرة، والله أعلم.
5 - وأما التوكل على الله
فقد قالت طائفة من الصوفية: لا يستحق اسم التوكل إلا من لم يخالط قلبه خوف غير الله تعالى، حتى لو هجم عليه الأسد لا ينزعج، وحتى لا يسعى في طلب الرزق، لأن الله ضمنه له. وهذا القول بعيد عن الصواب، والحق أن من وثق بالله، وأيقن أن قضاءه ماض لم يقدح في توكله تعاطيه الأسباب، اتباعا للسنة، فقد استعان صلى الله عليه وسلم في الحرب بالدرع، ولبس على رأسه المغفر وأقعد الرماة على فم الشعب، وخندق حول المدينة، وأذن في الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة، وهاجر هو، وتعاطى أسباب الأكل والشراب، وادخر لأهله قوتهم ولم ينتظر أن ينزل عليه من السماء، وكان أحق الخلق أن يحصل له ذلك، وقال للذي سأله: أعقل ناقتي أو أدعها؟ قال له "اعقلها وتوكل" فأشار إلى أن الاحتراز والسعي لا يتعارض مع التوكل.
وقد سئل الإمام أحمد عن رجل جلس في بيته أو في المسجد، وقال: لا أعمل شيئا حتى يأتيني رزقي؟ فقال: هذا رجل جهل العلم، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله جعل رزقي تحت ظل رمحي" وقال: "لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا" فذكر أنها تغدو وتروح في طلب الرزق، وقال: وكان الصحابة يتجرون، ويعملون في نخيلهم، ولنا بهم أسوة حسنة. اهـ.
وقد حثت الشريعة الإسلامية كثيرا على العمل، فقال صلى الله عليه وسلم: "أفضل ما أكل الرجل من كسبه وكان داود يأكل من كسبه"، قال تعالى: {وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم} [الأنبياء: 80] وقال تعالى: {خذوا حذركم} [النساء: 71].
وأما قول بعض الصوفية: كيف تطلب ما لا تعرف مكانه؟ أي كيف تطلب الرزق وهو مجهول لك؟ فجوابه: أن يفعل السبب المعروف المأمور به ويتوكل على الله فيما يخرج عن قدرته، فيشق الأرض مثلا ويلقي الحب ويتوكل على الله في إنباته، وإنزال الغيث له، ويحصل السلعة مثلا، وينقلها ويتوكل على الله في إلقاء الرغبة في قلب من يطلبها منه، بل ربما كان التكسب واجبا لقادر على الكسب يحتاج عياله للنفقة، فمتى ترك ذلك كان عاصيا.