3 - وأما الرقية
فقد تمسك بهذا الحديث من كره الرقى، وزعم أنها قادحة في التوكل، لكن أحاديث صحيحة كثيرة وردت تبيح الرقى، بل تحث عليها، ومن ذلك ما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه "أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أتوا على حي من أحياء العرب فلم يقروهم، فبينما هم كذلك إذ لدغ سيد أولئك. فقالوا: هل معكم من دواء أو راق؟ فقالوا: إنكم لم تقرونا، ولا نفعل حتى تجعلوا لنا جعلا، فجعلوا لهم قطيعا من الشاة، فجعل يقرأ بأم القرآن، فبرأ فأتوا بالشاء، فقالوا: لا نأخذ حتى نسأل النبي صلى الله عليه وسلم: فسألوه فضحك، وقال: وما أدراك أنها رقية؟ خذوها واضربوا لي بسهم" وروي أيضا عن عائشة رضي الله عنها قالت: "أمرني النبي صلى الله عليه وسلم، أو أمر أن يسترقى من العين"، وروي أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في وجهها سفعة [حمرة يعلوها سواد] فقال: "استرقوا لها، فإن بها النظرة" وروي أيضا عن عائشة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرقي وروايتنا السابقة في أولها "لا رقية إلا من عين أو حمة".
وفي البخاري عن عائشة قالت: "رخص النبي صلى الله عليه وسلم الرقية من كل ذي حمة" أي ذات سم.
أما هذا التعارض بين وصف السبعين ألفا بأنهم كانوا لا يسترقون وبين هذه الأحاديث الدالة على مشروعية الرقية فقد قال فيه الطبري والمازري وغيرهما: إن حديث السبعين ألفا محمول على من ابتعد عن اعتقاد الطبائعيين، في أن الأدوية تنفع بطبعها، كما كان أهل الجاهلية يعتقدون.
وقال آخرون: الرقى التي يحمد تركها ما كان من كلام الجاهلية أو كانت بكلام لا يعقل معناه، لاحتمال أن يكون كفرا أو يؤدي إلى الكفر، بخلاف الرقى بالقرآن والذكر ونحوهما، ولذا قال صلى الله عليه وسلم "اعرضوا على رقاكم، ولا بأس بالرقى ما لم يكن شركا" ورد القاضي عياض هذا القول بأن الحديث يدل على أن للسبعين ألفا مزية على غيرهم، وفضيلة انفردوا بها عمن شاركهم في أصل الفضل والديانة؛ ومن كان يعتقد أن الأدوية تؤثر بطبعها، أو يستعمل رقى الجاهلية ونحوها فليس مسلما.
وقال الداودي وطائفة: إن المراد بالحديث الذين يجتنبون فعل ذلك -الكي والرقية- في الصحة، خشية وقوع الداء، أما من يستعمل الدواء بعد وقوع الداء به فلا، ورد هذا القول بأنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة استعمال ذلك قبل وقوعه، فقد روى البخاري في باب المرأة ترقى الرجل، من حديث عائشة" أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه، ينفث بالمعوذات، ويمسح بهما وجهه" وروي أيضا من حديث ابن عباس "أنه صلى الله عليه وسلم كان يعوذ الحسن والحسين بكلمات الله التامة" وعند أبي داود والنسائي بسند صحيح أن رجلا قال: لدغت الليلة فلم أنم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "لو قلت حين أمسيت: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضرك" ولا خلاف في مشروعية الفزع إلى الله، والالتجاء إليه، في كل ما وقع وما يتوقع.
وقال ابن التين: الرقى بالمعوذات وغيرها من أسماء الله تعالى هو الطب الروحاني، إذا كان على لسان الأبرار من الخلق حصل الشفاء بإذن الله تعالى. فلما عز هذا النوع فزع الناس إلى الطب