الثالث جاء في بعض الأحاديث أن نفس دخول الجنة برحمة الله واقتسام الدرجات بالأعمال [أي فالنصوص التي تسند دخول الجنة للأعمال يراد منها اقتسام منازلها والنصوص التي تسند دخول الجنة للرحمة يراد منها أصل دخولها]
الرابع أن أعمال الطاعات كانت في زمن يسير والثواب لا ينفد فالإنعام الذي لا ينفد في جزاء ما ينفد بالفضل لا بمقابلة الأعمال [بمعنى أن العمل له مقابل أصلا لكن العطاء أضعاف أضعاف أضعاف ما يستحق فأسند دخول الجنة إلى الاستحقاق تارة وإلى الأضعاف تارة أخرى] وهناك أجوبة أخرى لكنها تقرب مما ذكرنا منها
أن المعطي بعوض قد يعطي مجانا بخلاف المعطي بسبب فإنه لا يوجد بدون السبب فالباء في الآية للعوض وليست للسببية كما يقول المعتزلة
فالحديث ينفي مقابلة دخول الجنة بالعمل إذ العمل بمجرده ولو تناهى لا يقابل دخول الجنة ولا أن يكون عوضا لها لأنه ولو وقع على الوجه الذي يحبه الله لا يقاوم نعمة الله بل جميع العمل لا يوازي نعمة واحدة فتبقى سائر نعمه مقتضية لشكرها وهو لم يوفها حق شكرها
أما الجبرية فقد أنكروا أن تكون الأعمال سببا في دخول الجنة من كل وجه
والقدرية زعموا أن الجنة عوض العمل وأنها ثمنه وأن دخولها بمحض الأعمال فالحديث يبطل دعوى الطائفتين
وقال الحافظ ابن حجر ويظهر لي في الجمع بين الآية والحديث جواب آخر وهو أن يحمل الحديث على أن العمل من حيث هو عمل لا يستفيد به العامل دخول الجنة ما لم يكن مقبولا وإذا كان كذلك فأمر القبول إلى الله تعالى وإنما يحصل برحمة الله لمن يقبل منه وعلى هذا فمعنى قوله {ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون} [النحل 32] أي تعملونه من العمل المقبول اهـ
والتحقيق أن هذا القول لا يبعد كثيرا عن القول الأول لابن الجوزي غايته أن الرحمة في التوفيق لأداء العمل أو في التوفيق لقبوله والأول أدق لأن عدم قبوله مع استيفائه شروط الصحة والقبول مستبعد
ويؤخذ من قول السائل ولا أنت يا رسول الله أنهم كانوا يظنون أن العمل سبب وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان عليه من شدة الخشية والتقوى وعظم الأجر لا يدخل في هذا القرار
وفي قوله "ولكن سددوا" رد على من ينفي فائدة العمل واستدراك على من يفهم من العبارة الأولى النفي المذكور وكأنه قيل بل له فائدة وهو أن العمل علامة على وجود الرحمة التي تدخل العامل الجنة فاعملوا واقصدوا وتحروا بعملكم السنة من الإخلاص وغيره
وفي قوله "قاربوا" الحث على الرفق في العبارة
والله أعلم.