ونحن نقدر مشاعر الإمام النووي في تبرئة ساحتهم جميعا رضي الله عنهم لكنا لا نوافق على تعميم هذه البراءة فهم بشر وليسوا معصومين وكان في جيوش النبي صلى الله عليه وسلم ومن أصحابه من يقاتل للمغنم، ومن يقاتل حمية، ومن يقاتل للغضب ومن يقاتل ليرى مكانه ولا شك أن هذه الدوافع كانت موجودة في جيش عائشة وعلي رضي الله عنهما في موقعة الجمل التي قتل فيها نحو عشرة آلاف من خيرة الصحابة والتابعين ثم موقعة صفين وقبلهما الفتنة الكبرى ومقتل عثمان رضي الله عنه. ومع أننا لا نبرئ ساحة الجميع - لأن تبرئتهم تقربنا من السوفسطائية شعبة العندية، التي ترى أن الحق يختلف باختلاف ما عند كل واحد - إلا أننا نمسك عن لوم وتعنيف وذم أحد منهم، فلهم من الفضل ما يحملنا على التوقف عن الإساءة إليهم، وإن اعتقدنا أن الصواب كان في هذا الجانب دون هذا الجانب رضي الله عنهم أجمعين.
التفاضل بين الصحابة
والكلام فيه في مقامين:
مقام التفاضل بين الخلفاء الأربعة، ومقام التفاضل بين أزواجه صلى الله عليه وسلم وبناته.
أما المقام الأول فقد روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كنا نخير بين الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فنخير أبا بكر، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان، رضي الله عنهم" وفي رواية له "كنا لا نعدل بأبي بكر أحدا، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا نفاضل بينهم" وله عند أبي داود "كنا نقول - ورسول الله صلى الله عليه وسلم: حي - أفضل أمة النبي صلى الله عليه وسلم بعده أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان" زاد الطبراني "فيسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فلا ينكره" قال الحافظ ابن حجر: وتقديم "عثمان" على "علي" رضي الله عنهما هو المشهور عند جمهور أهل السنة، وذهب بعض السلف إلى تقديم "علي" على "عثمان" وممن قال به سفيان الثوري، ويقال: إنه رجع عنه، وقال به ابن خزيمة وطائفة قبله وبعده، وقال مالك في المدونة: لا يفضل أحدهما على الآخر، وتبعه جماعة.
وقال ابن معين: من قال أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعرف لعلي سابقتيه وفضله فهو صاحب سنة، وأنكر ابن معين رأي قوم - وهم العثمانية، الذين يغالون في حب عثمان، ويستنقصون عليا، وقال فيهم قولا غليظا.
قال الحافظ ابن حجر: ولا شك في أن من اقتصر على ثلاثة ولم يعرف لعلي بن طالب فضله فهو مذموم وادعى ابن عبد البر أنهم أجمعوا على أن عليا أفضل الخلق بعد الثلاثة، قال: ودل هذا الإجماع على أن حديث ابن عمر [التوقف عند الثلاثة] غلط وإن كان السند صحيحا وتعقب بأنه لا يلزم من سكوتهم إذ ذاك عن تفضيله، عدم تفضيله على الدوام وتعقب أيضا بأن الإجماع المذكور الذي ادعاه، إنما حدث بعد الزمن الذي قيده ابن عمر، فيخرج حديثه عن أن يكون غلطا. قال الحافظ ابن حجر: وأظن أن ابن عبد البر إنما أنكر الزيادة التي وقعت في رواية ابن عمر وهي قوله "ثم نترك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا نفاضل بينهم" ولا يلزم من تركهم التفاضل إذ ذاك أن لا يكونوا اعتقدوا بعد ذلك تفضيل "علي" على من سواه.