مكانه كان تنازلاً وإيثاراً مقبولاً منه، مشكوراً عليه، وإن كان الأولى للداخل أن لا يجلس في المكان الذي أوثر به، هضماً للنفس، وبعداً عن الريب والشبهات، وقد كان ابن عمر رضي الله عنهما يفعل ذلك، إذا قام له أحد عن مجلسه شكره، ولم يجلس فيه، فالناس في الأماكن العامة شركاء، وفي المجالس والمساجد الخاصة سواسية، من سبق إلى مكان كان أحق به حيازة وانتفاعاً، لا يحق لآخر أن يحوله عنه، لا في اجتماعات الجمعة للصلاة، ولا لغيرها، حتى الباعة الذين يضعون أمتعتهم على جانب الطريق العام، أو في متسعات الأماكن، من وضع أمتعته في مكان حاز الانتفاع به، لا يزاحمه زميل له، نعم يجب على من شغل مكاناً أن لا يفرش نفسه على قدر لا ضرورة له، فإن فعل، وجاء محتاج إلى مكان كان عليه أن ينضم ويفسح لأخيه المسلم، فالله تعالى يقول: {يا أيها الذين ءامنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم} [المجادلة: 11].
وحتى إذا اضطر من شغل مكاناً وسبق إليه، أن يقوم عنه لفترة قصيرة، كقضاء حاجة أو وضوء أو إحضار كتاب أو مصحف، ثم عاد فهو أحق بمكانه، وعلى من شغله أن يخليه له.
تلك حقوق وواجبات حرص الشارع على بيانها، حفاظاً على المودة بين المسلمين، وتفادياً لبواعث الشقاق والخلاف والبغضاء.
-[المباحث العربية]-
(بينما هو جالس في المسجد، والناس معه، إذا أقبل نفر ثلاثة) "بينما" أصله "بين" الظرفية الزمانية، زيدت عليها "ما" وقد تزاد الألف فقط، فيقال "بينا" وهو ملازم للإضافة إلى جملة، ويحتاج إلى جواب، هو العامل فيه، إذا لم يكن في الجملة لفظ المفاجأة، فإن وجد -كما هنا- فالعامل معنى المفاجأة، وكان جلوسه صلى الله عليه وسلم في هذا الوقت لوعظ الناس وتعليمهم الشريعة، وجملة "والناس معه" حالية، والمراد من الناس بعض الصحابة، و"إذ" للمفاجأة، والنفر بفتح النون والفاء اسم جمع، ويطلق على جماعة من الرجال، ليس فيهم امرأة، ويقع على العدد، من ثلاثة إلى عشرة، و"ثلاثة" بدل من "نفر" وفي رواية البخاري "ثلاثة نفر" بإضافة "نفر" إلى "ثلاثة" والإضافة بيانية، كقوله تعالى: {تسعة رهط} [النمل: 48] وكان إقبالهم من باب المسجد، مارين بمجلس الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان للمسجد فتحتان متقابلتان، كالبابين، يمر منهما الناس، ويطرقونه كالشارع.
(فأقبل اثنان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) هذا إقبال آخر غير الأول، وفي الكلام مضاف محذوف، أي أقبل اثنان من طريق مرورهما إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي حديث أنس "فإذا ثلاثة نفر يمرون، فلما رأوا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم أقبل إليه اثنان منهم، واستمر الثالث ذاهباً".
(فوقفا على رسول الله صلى الله عليه وسلم) "على" بمعنى "عند" أو في الكلام مضاف محذوف، تقديره: على مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة، فجلس فيها) "أما" حرف تفصيل، تجب الفاء