ولا يخفى أن جر الثوب خيلاء ما هو إلا مظهر من مظاهر الكبر المذموم، وقد عقد له باب خاص في كتاب الإيمان، وشرحنا فيه حديث "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسنة، قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق -أي إبطال الحق والبعد عنه ترفعاً وتجبراً، قيل: الكبر العظمة، يقال: تكبر بمعنى تعاظم، وقيل: الكبر غير العظمة، إذ الكبر يقتضي متكبراً عليه، والعظمة لا تقتضي متعاظماً عليه، فقد يتعاظم الإنسان في نفسه.
فالتقييد بجر الثياب خرج مخرج الغالب في مظاهر الكبر، لكن الذم موجه في الحقيقة إلى البطر والتبختر، ولو لمن شمر ثوبه.
أما الإعجاب بالثياب الذي تشير إليه الرواية الثامنة والتاسعة فالمقصود به الإعجاب الذي يصاحبه الكبر والخيلاء، وليس من قبيل الكبر لبس الجميل من الثياب، وتحسين الهيئة والصورة، ما لم يصحبه عجب في النفس، وخيلاء في الإحساس والشعور، وفي ذلك يقول الله تعالى: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق} [الأعراف: 32] ويقول {يا بني ءادم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا} [الأعراف: 31] ويقول صلى الله عليه وسلم -فيما رواه البخاري "كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير إسراف ولا مخيلة" ويقول ابن عباس "كل ما شئت والبس ما شئت، ما أخطأتك اثنتان: سرف ومخيلة".
قال الحافظ ابن حجر: والذي يجتمع من الأدلة أن من قصد بالملبوس الحسن إظهار نعمة الله عليه، مستحضراً لها، شاكراً عليها، غير محتقر لمن ليس له مثله، لا يضره ما لبس من المباحات، ولو كان في غاية النفاسة، فقد أخرج الترمذي "إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده" أما من أحب ذلك ليتعاظم به على الآخرين فهو المذموم، وقد أخرج الطبري من حديث علي رضي الله عنه "إن الرجل يعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك صاحبه، فيدخل في قوله تعالى {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً} [القصص: 83].
فمدار الذم الكبر والعجب والخيلاء، لا جمال الثوب أو نفاسته، بل إن التجمل والتطيب، ولبس أحسن ما عند المرء من الثياب من مقاصد الشرع الحنيف عند المجتمعات، كالجمع والأعياد ولقاء الوفود والكبراء، ففي الحديث "ما على أحدكم لو اتخذ ثوبين لجمعته، سوى ثوبي مهنته" إذ بذلك تقبل النفوس، وتجتمع القلوب، وتتآلف الناس، ويترابط المجتمع، وليست مجالسة نافخ الكير كمجالسة حامل المسك، فقد أخرج النسائي وأبو داود عن عوف بن مالك عن أبيه "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له -ورآه رث الثياب- إذا آتاك الله مالاً فلير أثره عليك".
فالسنة أن يلبس المرء ثياباً تليق بحاله من النفاسة والنظافة، ليعرفه المحتاجون للطلب منه، مع مراعاة القصد، وترك الإسراف، اللهم إلا إذا أثار هذا اللباس في الناس مظنة الكبر والخيلاء عند صاحبه، فيحسن التخلي عنه، لرفع الاتهام.